منصور ماجد الذيابي
كنت أوضحت في مقال سابق بعنوان «هل تنتحر إيران أم تجلس على الطاولة؟» ما إذا كان صنّاع القرار في طهران سيواصلون رفضهم للتفاوض مع الجانب الأمريكي ودول 5+1 قبل رفع العقوبات الأمريكية المشددة على إيران. كما أوضحت مع سلسلة العقوبات الاقتصادية نبض الخطاب الإعلامي الإيراني الذي كان يزداد حدةً وغضباً مع كل إعلان أمريكي جديد عن عقوبات اقتصادية جديدة، إذ كانت تصريحات الإيرانيين تتسم بالارتباك والرفض الإيراني التام لمطالبة حلفاء أمريكا بوقف تخصيب اليورانيوم والتفاوض مجدداً حول الاتفاق النووي.
وفي غضون ذلك اتسمت التصريحات الإعلامية في إيران بلهجة التهديد والوعيد والموت لأمريكا والمجتمع الدولي بأسره، وكانت ترفض مطالب الدول الإقليمية لتغيير سلوكها المعادي تجاه المنطقة والعالم، لكنها بعد ذلك اتجهت إلى مسار آخر، وذلك بما فهم عن رغبتها إقامة علاقات سياسية جيدة تقوم على مبادئ حسن الجوار واحترام سيادة الدول, ومراعاة مبادئ القانون الدولي, وعدم التدخل في الشئون الداخلية لجميع دول الإقليم من خلال التوقف عن دعم وإيواء وتسليح وتحريض الأحزاب والجماعات الخارجة عن القانون والمليشيات الموالية لطهران في سوريا واليمن ولبنان، ما يسمح لإيران بالخروج تدريجياً من عزلتها الدولية والإقليمية، لتصبح عضواً نافعاً في الأسرة الدولية.
ويقول محللون سياسيون إن عزلة إيران عن المجتمع الدولي جاءت نتيجة سياسة النظام الحاكم التي تقوم على استعراض القوة وزعزعة الاستقرار وإشعال الحرائق في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وأفغانستان، فضلاً عن محاولاتها التأثير على الأمن في دول أوروبية، كما حدث -مؤخراً- في بلجيكا حينما كشفت مصادر إعلامية عن إلقاء القبض على دبلوماسي إيراني والحكم عليه بالسجن عشرين سنة بعد إدانته بالتخطيط لهجوم في فرنسا ضد معارضين لنظام طهران في عام 2018م.
وكنت أراهن -آنذاك- على أن إيران ستعيد النظر سريعاً في خارطة حساباتها وسياساتها تجاه المنطقة والعالم, بل راهنت على أنها ستقبل يوماً بالجلوس على طاولة التفاوض وتقدم المزيد من التنازلات للبحث عن مخرج آمن يتيح لها الخلاص من مأزق العقوبات الاقتصادية الخانقة, ويسمح لها بحلحلة قيود العزلة المفروضة عليها من دول الإقليم العربي والمجتمع الإسلامي.
وها نحن اليوم نرى إيران تجلس على طاولتين وليس طاولة واحدة فحسب, إحداهما في فيينا مع الجانب الأوروبي لبحث موضوع الاتفاق النووي مع أمريكا, والطاولة الثانية في بغداد مع الجانب السعودي لبحث سبل وقف الدعم الإيراني لأذرعها من الإرهابيين في المنطقة، وأيضاً لمناقشة قضايا تتعلق بكيفية عودة إيران إلى مسار العلاقات الطبيعية مع المجتمع الخليجي والعربي من خلال إقامة علاقات سياسية واقتصادية تتفق مع مبادئ القانون الدولي وتنسجم مع ميثاق منظمة التعاون الإسلامي.
تجلس إيران اليوم على طاولتي المفاوضات بهدف التخلص من تبعات العقوبات الدولية وعواقب العزلة الإقليمية التي جعلت إيران تسعى إلى تغيير الخط السياسي المتشدد تجاه المنطقة العربية والساحة الدولية عموماً، وهو الخط الذي أدى إلى غليان الشارع الإيراني نتيجة تدهور الحالة الاقتصادية في البلاد بسبب استمرار النظام في ضخ مليارات الدولارات في برنامج المفاعل النووي، وتسليح أذرعها العسكرية على حساب مشروعات التنمية المستدامة، ورفع مستوى المعيشة للمواطن الإيراني المغلوب على أمره.
إيران تحاول أن تعود اليوم عبر طاولة المفاوضات مع المملكة العربية السعودية، أملاً في تطبيع العلاقات، باعتبار أن المملكة هي الدولة ذات الثقل السياسي والعسكري في منطقة الشرق الأوسط, وذات الثقل الاقتصادي على الصعيد الدولي، نظراً لأنها أحد أهم أعضاء مجموعة العشرين الاقتصادية.
وكمراقب للشأن الدولي والإقليمي, فإن إيران لم تعد تهدد الملاحة البحرية في الخليج مثلما كان يحدث سابقاً إبان عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب, كما ولم نسمع عن قيام زوارق البحرية الإيرانية بالتحرش بالسفن التجارية في الخليج بنفس ما كان يحدث، ناهيك عن تخفيف لهجة الخطاب الإعلامي لقيادات الحرس الثوري في طهران.
يأتي هذا التراجع في طبيعة المواقف الإيرانية في هذه المرحلة لإرضاء الإدارة الأمريكية الجديدة في محاولة أخيرة لدفعها باتجاه العمل على رفع أو على الأقل تخفيف العقوبات الاقتصادية والإفراج عن الأرصدة المالية المجمدة في البنوك الأمريكية والأوروبية.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، كان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، قد رحب بتصريح الأمير محمد بن سلمان خلال مقابلة الأخير مع التلفزيون السعودي، واصفاً خطاب ولي العهد السعودي بأنه سيساعد كثيراً في خفض التوتر في المنطقة، فهذا الترحيب يبعث رسالة واضحة بأن إيران تريد التراجع عن مواقفها المتشددة، والعودة إلى الأسرة الدولية بأقل الخسائر.
كما زار ظريف مسقط -مؤخراً- لكي يوضح لدول الخليج العربي أن إيران يمكنها المساهمة في حل الأزمة اليمنية من خلال الضغط على وكلائها الحوثيين بقبول وقف إطلاق النار، وفقاً لمبادرة الرياض التي تنص على ضرورة أن يجلس الحوثيون على طاولة التفاوض مع الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي لأجل تغليب مصلحة اليمن على المصالح الحزبية الضيقة.
تأتي هذه التحركات في المشهد الإيراني تمهيداً لإمكانية إيجاد توافق سياسي، أملاً في الحصول على علاقات طيبة مع دول الخليج العربي, وذلك في محاولة أخيرة لإنقاذ الحالة الاقتصادية المتدهورة، ورفع المعاناة اليومية عن كاهل المواطن الإيراني الذي دفع ثمن العقوبات والعزلة الدولية على نظام بلاده.
حدثت كل هذه التغيرات في المواقف الإيرانية بعد خطاب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، وهو الخطاب الذي كانت له أصداء ترحيبية واسعة ليس في إيران فحسب، وإنما في روسيا وكثير من دول العالم أيضاً. فهذا الأمير الشاب كان قد ظهرت عليه منذ توليه مهام ولاية العهد علامات الحنكة السياسية والخبرة الاقتصادية, وبالتالي فالأمير يتمتع بشخصية سياسية مؤهلة لحل كثير من قضايا المنطقة التي لا تزال عالقة، فهو مهندس رؤية السعودية 2030 ومؤسس مدينة نيوم الذكية, ومصمم مبادرتي المملكة الخضراء والشرق الأوسط الأخضر, والخبير بالشأن الدولي, والعارف بتفاصيل الشأن الاقتصادي في بلاده وفي العالم كذلك. كيف لا وهو ولي عهد الملك سلمان وحفيد المؤسس الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- الذي استطاع أن يجعل من الضعف قوة, ومن الخوف أمناً وسلاماً, وحقيقة، ومن الفرقة والشتات اعتصاماً واتحاداً, ومن الكساد ازدهاراً ونماء ينعم به الشعب السعودي الأبي وكل شعوب العالم الإسلامي.