د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في عيد الفطر المبارك بعد شهر رمضان الكريم في السنة الماضية، كانت كورونا في بدايتها وعلى أشدها، ولا أحد يعلم بمنتهاها مع علمنا بمبتدئها، ولا أحد من علماء الأرض يعلم يقيناً كنهها، ودواءها والوقاية منها، مع علمهم بسرعة انتشارها وأثرها، وكان من الأساليب المتبعة أخذ الحيطة والحذر ولبس الكمامات، والتقليل من الزيارات، والابتعاد عن التجمعات، فكان عيداً له لون خاص لم يألفه الناس، ولم يتعودوا على قيوده وشروطه.
بعد مرور سنة قاسية على العالم أجمع حلّ عيد هذا العام، وإن كانت الاحترازات ما زالت سائدة، والالتزامات ظلت قائمة، إلاَّ أن كثيراً من الأمور، قد اتضحت، فقد عرف الكثير عن هذه الجائحة، واستطاع العلماء الوصول إلى لقاحات واقية وآمنة بإذن الله، وأخذت الشركات في السباق نحو إنتاج اللقاح، والعالم سعى إلى أخذه بارتياح.
والأمل في الله كبير أن تعود الأمور كما كانت، ويسعى الناس في مناكبها كما اعتادت، ولله في كل أمر حكمة، ولعل الخير فيما نكره، ومن توكل على الله فهو حسبه.
في هذا العيد أصبح الناس قادرين على التزاور، والفرح بالعيد، وزيارة القريب والبعيد، وفتحت الأبواب، وتعانق الأحباب، ممن أخذ جرعاته كاملة، وبعد كل عسر يسر، وكل غيب وراءه أمر، وإلى الله تعود عاقبة الأمور، وأملنا أن تعود البهجة والسرور.الأمور لا تسير كما تشتهيه الأنفس، ولا ما تتطلع إليه الأعين، ولا ما تميل إليه الألباب، ولا إلى ما تهفو إليه الأفئدة، وتسعى إليه الأرجل، وتمد إليه الأيدي، لكنها أقدار مقدرة، يسيرها الرحمن لحكمة أرادها، وما على المرء إلاَّ الرضا والاحتساب، فما صفت الدنيا للسابقين، من الأنبياء والرسل والصالحين، وغيرهم من العالمين، ولن تكون أيضاً صافية لأهل هذا الزمان، ولا ما يتبعه من سائر الأيام، فهي هكذا صفو وكدر، وقحط ومطر، وتصحر وتشجر.
عيد الفطر المبارك الذي حضره الرحالة الاندلسي ابن جبير في مكة المكرمة، أثناء رحلته التي تمت في نهاية القرن السادس الهجري، كان أمير مكة المكرمة آنذاك الأمير مكثر بن عيسى، وفي صباح ذلك العيد كما يقول ابن جبير حضر الأمير إلى المسجد الحرام، وقد حف به الأنام، وتقدم الإمام، للصلاة بمن حضر من البشر، وبعد أن فرغ الناس من الصلاة، وكان الوقت ضحى، أخذ الناس بالسلام عليه، ثم جلس، وأخذ الشعراء في إلقاء شعرهم أمامه، يمدحونه بما فيه وما ليس فيه، طمعاً في المال، أو صدقاً في المقال، والغالب هو السعي إلى النوال، والعطايا من صور الذهب، أو الخيل والجمال، إما لتحسين الحال، أو إكرام الأقرباء والعيال، أو التصدق بها على ذي حاجة، وصاحب علة يريد دواء، أو شيئاً من الغذاء، وآمل ألا يكون صرفة للفخر والتباهي، والنظر إلى الناس بشيء من التعالي، والمهم أن كثيراً منهم حقق ما أراد، ونال بشعره المراد.
هذه أحوال العالم مع كورونا، وقبل ذلك مرت سنين جميلة، وأعياد سعيدة، ملأت البهجة قلوبهم، وتزينت بها دورهم ودروبهم، ولبسوا أحسن الثياب، وتعطروا بأنفح الأطياب، وإن كان لكل ظروفه، وأن تظاهر بالسعادة، فقد يحمل قلبه آلاماً مريرة، وأحزاناً دفينة، يحملها أينما ذهب، وفي كل ساعة من ساعات يومه وليله، وكأنه يقول للناس ما قال المتنبي، حتى وإن المقام مختلف:
أُريكَ الرِضا لَو أَخفَتِ النَفسُ خافِيا
وَما أَنا عَن نَفسي وَلا عَنكَ راضِيا
فإن كان هذا البيت قد قاله المتنبي في قصيدته التي هجا بها كافوراً، فهو يصلح أيضاً لمخاطبة العيد، في أوقات الأمراض والآلام، أو جور الأيام، وفي ذات القصيدة التي ذكر فيها المتنبي هذا البيت في قصيدته الهجائية لكافور، فقد استهلها بالعيد، فقال:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ
فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ
يبدو أن عيد المتنبي عن ذلك لم يكن السقم أصابه، أو عوز أحاطه، لكنه فقد الرضا، وتطلع إلى العلى، دون أدوات لديه، فهو قادم من الشام نزيل مصر على نفقة كافور وضيافته، ولم يكن من المماليك ليطمع في شأن بعيد المنال.
ودهر حزين مر على ملك عظيم في شهرته، وليس في تدبيره وحكمته، وهو المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية، الذي قاده يوسف بن تاشفين أسيراً سجيناً في أغمات بالقرب من مراكش الحمراء، وعندما حل العيد، وزارته عائلته في ثياب بالية وبطون جائعة، يغزلن للناس لسد جزء من الجوع وهن حافيات، تذكر عزاً مضى، ووضعاً حاضراً كله أسى فقال:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا
فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا
تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً
يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميرا
بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً
أَبصارُهُنَّ حَسراتٍ مَكاسيرا
يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ
كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكاً وَكافورا
لا خَدَّ إِلّا تَشكّى الجَدبَ ظاهِرهُ
وَلَيسَ إِلّا مَعَ الأَنفاسِ مَمطورا
أَفطَرتَ في العيدِ لا عادَت إِساءَتُهُ
فَكانَ فِطرُكَ لِلأكبادِ تَفطيرا
قَد كانَ دَهرُكَ إِن تأمُرهُ مُمتَثِلاً
فَرَدّكَ الدَهرُ مَنهيّاً وَمأمورا
مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ
فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا
هكذا تمر الأعياد، فيسعد بها من سعد، أو تمر كجهام لا يحمل مطراً، ولا يسقي شجراً، بل ربما تثير الأحزان، كما حدث للمعتمد بن عباد.