الهادي التليلي
مصر هبة النيل هذا ما صدح به المؤرخ الإغريقي هيرودوت منذ ما يزيد على أربعة قرون قبل الميلاد، هذا البلد العريق القديم الذي عتقه التاريخ بعبق كل الحضارات المتعاقبة عليه، بلد يفتح على قلبك أبوابا تعشقه شئت أم أبيت، إنه الروعة الشرقية المقطرة من عقاقير شتى.. التاريخ المجيد وعظمة دهشته هذا السلاح الذي اختارته مصر في هذا الاستعراض العسكري لملوكها القدامى لتناور ولترى من نسي أو تناسى أنها مصر..
في الواقع لا يستطيع الواحد منا أن يخرج السؤال عن سياقه لماذا اختارت مومياوات الملوك التبرج والخروج في نزهة تجوب شوارع القاهرة في هذا الوقت بالذات، لماذا تحديداً بعد حادثة الناقلة إيفر كيفن وما تلا لحظة تحلحلها بعد أن جنحت في قناة السويس ومسارعة الشركة المالكة إلى التشكي لدى القضاء الدولي ببريطانيا، ولماذا اختار ملوك الفراعنة القيام والتجول والعودة إلى سطح اهتمام العالم في ظل تعثر مفاوضات سد النهضة وهم يتبخترون باتجاه متحفهم الجديد.
الفراعنة الذين قدموا للبشرية العديد من الإنجازات والأعاجيب التي عجز العالم والعلم الحديث على فك شفرتها، في الحقيقة الموضوع يفوق كل هذا، إنها مصر التي اختارت أن تقول للعالم من خلال ملوكها القدامى وبتحية من قيادتها الحالية لمن ساهموا في بناء عظمة مصر وإعلاء مكانتها بين الشعوب أنها مصر العراقة.. في لحظة وجودية بكل المقاييس لحظة لن يمر عليها التاريخ مرور الكرام لأنها مشهد كرنفالي يصل إلى درجة مواكب الزعماء العظماء.
مصر التي يرجع تسمية علم الكيمياء إليها «كمت» وهي التربة السوداء لوادي النيل بهذه الفعالية الرائعة بلغت رسائل متعددة بخطاب واحد إنها كيمياء الكلام، فالتاريخ وهنا يحضرنا هيرودوت في الإلياذة والأوديسة والذي يسبق كل الاتفاقيات وكل الحضارات الحديثة، كان يرى في النيل مصر ومصر في النيل، وكم كان حكيماً هيرودوت لأنه حتى علم الكيمياء الذي برع فيه أهل مصر القدامى كان من هوية وتربة النيل المصري السوداء، وهنا تقول مصر الحديثة بألا أحد يقدر أن يأخذ أو يغتصب حق مصر في مياه النيل.
ومن جهة أخرى مصر التي على جماجم أبنائها بنيت قناة السويس الرابطة بين بحرين الأحمر والمتوسط حيث مات خلال حفرها أكثر من 120 ألف عامل نتيجة الجوع والعطش والأوبئة، ودامت أشغالها 10 سنوات كاملة، واحتاجت إلى قرابة مليون عامل وشهدت تجاذبات كما كانت سبب حروب وأطماع خارجية لعل العدوان الثلاثي أبرزها هذه القناة التي أسست في 1869 وأممت مع عبدالناصر في 1956 وأعيد تشغيلها مع السادات في 1975وتعد موردا من موارد هذا البلد يشهد مناورات من حاسديه ومحاولة الاستقواء بالوضع الجيو سياسي قصد فرض قناة أخرى مسارها يمكن أن تستفيد منه إحدى الدول ذات الارتباط الوثيق بمراكز القرار العالمي.. وكأن إخراج الفراعنة في هذا الكرنفال المهيب رسالة موجهة لمن يهمه الأمر من قيادة مصر لهم ولأرباب السفينة الجانحة الذين سارعوا للقضاء الدولي ببريطانيا استقواء وتهرباً من المسؤولية وكأنما الملوك القائمين لنزهتهم وانتقالهم لسكنهم الجديد يوجهون برقية سريعة بأنكم لا تعرفون التاريخ فتحركوا في الجغرافيا أينما شئتم لأن خراجكم لي.
والأكثر من ذلك ما يحققه مسار الـ 22 مومياء التي كانت تسكن في متحفها القديم أكثر من 140 عاماً من توحيد لمهجة المصريين وإلهامهم في الإسهام في بناء مستقبل مشرق يكون فيه لإبداع المصريين الباب الأكبر استلهاماً من عبق التاريخ الذي يرفع رأس أبناء هذا البلد ويرفعهم عن كل ما يعطل تنميتهم وتحدياتهم.. ذلك هو المهرجان السحري في صورته الذي يعد مساراً سياحياً يفتح أبواب الموسم السياحي على مصراعيه بعد تحديات كورونا، إنها العصافير الكثيرة التي يقتنصها الصياد الماهر بطلقة واحدة.