أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من أراد أن يرزقه الله فقهاً في الدين فعليه أن لا يشق على نفسه بإقحام مدلول المصطلحات البشرية من علوم الأصول والمنطق في فهم دين ربه؛ فهذا ضياع للذهن والوقت؛ وإنما عليه مزاحمة صدر أتباع السلف الصالح؛ بأن يكون الاتباع بإحسان؛ وذلك بحذق وسائل الاستنباط الصحيحة قبل فساد السليقة العربية؛ وتلك الوسائل محصورة في الحذق الجيد للغة العرب مفردةً وصيغةً ورابطةً وسياقاً وبلاغةً، مع الاحتفاء ببدائه العقول، وقوانين الفكر الضرورية؛ فيستعمل هذه الوسائل في فهم النص الشرعي الصحيح، مع التبحر في قراءة كتب الحديث ذوات الأسانيد؛ فإذا رجع إلى كتب الفقه أو الأصول؛ ليشرف على مذاهب علماء المسلمين فليكن رجوعه رجوع المقتنع بوسائله في الاجتهاد؛ فيرد كل خلاف إلى بدائه اللغة والعقول واطراد الأصول.. ولقد رأيت التحقيق اللغوي في النصوص الشرعية النازلة بلغة العرب مع استحضار بدائه العقل يحل خلافاً فقهياً كثيراً، ويضاف إلى ذلك تركيب البرهان الواحد من عشرات من النصوص وردت في مقاصد معينة؛ فهذا يرفع التعارض من أفهام المسلمين؛ لأن ضم مفهوم نص شرعي إلى مفهوم نص شرعي آخر يحدد مقاصد شرعية يقضي بالرجوع إليها عند الاختلاف؛ فتكون من قواطع الإسلام وضروراته كالاستدلال على أن عقوبة الشرع أكبر من حجم الجريمة؛ فهذا لا تجده في نص شرعي واحد، ولكنك تبلوره من مفهوم نصوص كثيرة.
قال أبو عبدالرحمن: ومن الأصول الأولى غير المتكلفة القسمة الحاصرة، وأضرب المثال بالدعاء في السجود والركوع؛ وهو أن الساجد والراكع لا يخلوان من ثلاث حالات لا رابعة لها في تصور العقل وواقع الحس: فإما أن يسكت في أثناء الركوع والسجود، وإما أن يقول أي دعاء أو تلاوة، وإما أن يقول قولاً معيناً؛ فأما السكوت فلم أجد مطلقاً في نص شرعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت في ركوعه وسجوده أو أمر بذلك أو أباحه بقوله أو فعله؛ فصار السكوت عملاً ليس عليه أمر الشرع؛ فنظرنا فيما يقول الراكع والساجد: أمباح له أن يقول أي شيء في أثناء ركوعه وسجوده، أو لا بد له من كلام معين يقوله؟.. فرجعنا إلى من تجب طاعته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه عين شيئاً بعد النهي عن شيء؛ إذ قال : (ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً.. أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء)، ثم بين عليه الصلاة والسلام ما يقال في الركوع والسجود من تعظيم وتسبيح ودعاء ؛ فلو اكتفى عليه الصلاة والسلام بالنهي عن قراءة القرآن لقلنا: (كل كلام تعبدي جائز في الركوع والسجود غير القرآن)؛ فلما عين ما يقال في السجود والركوع صح بذلك أن السكوت لا يجوز، وأن أي كلام لا يجوز أيضاً إلا أن يكون تعظيماً وتسبيحاً ودعاء؛ فصح بذلك أن الدعاء في الركوع والسجود واجب؛ لأن العقل إذا حصر بضرورة فكرية أو حسية ثلاث حالات لا رابعة لها، ووجد حكم الثالث ملغياً لهما: وجب حكم القسم الثالث الذي لا بديل له.. ومثل هذا البرهان فطرة في العقول، وهو من بدائه لغة العرب، وقد خاطب ربنا عقول العرب بهذه البديهة؛ إذ بين لهم سبحانه أنه ليس بعد الحق إلا الضلال؛ ذلك أن البرهان إذا قام على أن هذا ضلال تعين بالضرورة أن غيره هو الحق؛ لأنه ليس في القسمة الجامعة إلا الحق والضلال ولا ثالث لذينك.. ولكن الضلال له نقيضان باعتبارين؛ فنقيضه الباطل إذا أريد الاعتقاد بثبوت أو نفي وجود شيء، أو الحكم عليه بأنه مثلاً عدل أو جور.. ونقيضه أيضاً الضلال إذا أريد سلوك المكلف؛ لأنه ضل عن سبيل ما جعل الله له سلوكه.. ومن الحذق للغة العرب بلا تكلف العلم بالفطرة بما يقدر من الكلام وما لا يقدر في صيغتين ورد بهما النص الشرعي الصحيح مثل ما يقال بعد الرفع من الركوع؛ فقد كان الشيخ ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى لما رأى الروايات مختلفة؛ إذ وردت مرة بصيغة (ربنا لك الحمد) بدوواو، ومرة بصيغة (ربنا ولك) بالواو: قال: (لم يأت في حديث صحيح الجمع بين لفظ اللهم وبين الواو).. قال ذلك في معرض الاستدلال لمذهب الإمام أحمد ابن حنبل رحمهما الله تعالى؛ لأن أحمد قال عن النص الشرعي: (إذا قال ربنا) قال: (ولك الحمد) بالواو.. أي ربنا ولك الحمد، وإذا قال: (اللهم ربنا) قال: (لك الحمد) بدون الواو.. أي اللهم ربنا لك الحمد.. والواقع أنه ثبت الجمع بين اللهم والواو.. أي اللهم ولك الحمد في حديث صحيح، وهو ما رواه البخاري في صحيحه في باب صلاة القاعد من حديث أنس رضي الله عنه، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد)، ولا اختلاف بين نسخ صحيح البخاري في إثبات الواو في هذا الموضع كما بين ذلك الشيخ الشوكاني؛ ولهذا فالمصلي يراوح في صلواته بين الروايات، ويقرأ كل رواية بوجهها إن أثبتت الواو أو أسقطتها، ولكل من ثبوت الواو وحذفها وجه من لغة العرب؛ فإذا أثبت الواو احتمل أن تكون الواو عاطفةً لمذكور على مقدر؛ فإذا قال: (ربنا ولك الحمد): كان تقدير الكلام (ربنا استجب ولك الحمد)، أو (ربنا حمدناك ولك الحمد)، أو (ربنا والحال أن لك الحمد).. وأما احتمال أن تكون الواو زائدة، وأن النص بلا تقدير فلا يجوز هذا الاحتمال؛ لأن زيادة حرف بلا معنى ممتنع في لغة العرب التي نزل بها الشرع؛ وإنما يتجوز بذلك الشعراء في ضرورة الشعر.. ولا ضرورة في سعة الكلام.. وأما البناء على قاعدة (أن ظاهر الكلام أولى من تقدير غيره) فذلك صحيح؛ لأنه لا يجوز إهمال مذكور وإعمال غير مذكور.. إلا أن هذا إنما يقال في احتمال معنى مقدر مع وجود معنى ظاهر، وأما ههنا فنحن بين روايتين وكلتاهما حق؛ فالرواية بدون الواو لا تحتاج إلى تقدير، والرواية بالواو لا تفهم إلا بالتقدير بلا دعوى زيادة، وكل ذلك مقتضى لغة العرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يخاطبنا بلغة العرب.. ومن ذلك مراعاة أصول الخطاب عند عرب السليقة كصيغ الطلب؛ فقد وردت صيغ الدعاء في الركوع والسجود بصيغ تعرف عند العرب بالأوامر، ويعرف مدلولها البدوي الأمي المتلفع في شملته؛ لأن مدلول هذه الصيغ يقتضي الإيجاب.. ولا ريب أن كلام العرب من شعر ونثر مليء بصيغ أمر لا تقتضي الإيجاب كقول المستقوي بقوته: (اضرب)؛ فهذا تهديد أو تعجيز وليس إيجاباً؛ وإنما المعنى: (إن استطعت الضرب فاضرب).. يقال هذا على سبيل التحدي والإعجاز.. وكقول الربي: (يا فلان انظر موطئ قدمك) فهذا أمر لا يفهم منه الإيجاب، وإنما يفهم منه التحذير من التهور.. وفي عرف العرب أن الموظف الصغير إذا قال لرئيسه من وزير وغيره: (اكتب لفلان بكذا) أن ذلك ليس إيجاباً؛ لأنه لا يملكه، وإن كان بصيغة الأمر؛ وإنما هو مشورة واستشفاع واقتراح.. إلا أن هذه المعاني المخالفة الإيجاب إنما تفهم بدلائل خارجية من سياق الكلام، أو من حال المتكلم أو المخاطب؛ فإذا لم توجد هذه الدلائل الخارجية فيجب حمل صيغة الأمر على مدلولها المفهوم منها نفسها، وهو الإيجاب بموجب لغة العرب وبدائه العقول.. ومشروعية الدعاء في السجود والركوع ثابتة بأوامر شرعية، وليس هناك قرائن أو دلائل تصرفها عن أصلها؛ فوجب أن تحمل على أصلها، وهو الوجوب؛ لأن أوامر الشرع إذا تجردت من القرائن آكد في الإيجاب من كلام كل عربي؛ وبرهان أن ذلك آكد أن الشرع إذا كان خطاباً تكليفياً فمحل المخاطب الامتثال؛ لأنه مكلف، ومحل النص الإيجاب؛ لأن منزل النص هو الواجبة طاعته؛ وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.