د.جيرار ديب
من يقرأ التحولات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط، من زيارات ولقاءات وكلام معسول وجميل بين دول كانت بالأمس القريب تعتبر العداوة فيما بينها شعاراتها الرئيسية، يدرك أنّ المنطقة ذاهبة إلى مرحلة من التهدئة، والاستقرار إلى حدّ ما.
سلسلة أحداث تسارعت، ولقاءات عقدت، وجمعت الأطراف المتخاصمة والمتنازعة سرًا أو علنًا، مباشرةً أو عبر وسيط، كلها مؤشرات على حالة من التهدئة والاستقرار تظلل منطقة الشرق الأوسط؛ منها حديث الأمير فيصل بن فرحان وزير خارجية المملكة حول أحقية عودة سوريا إلى الحضن العربي، وكان قد سبقه كلام ولي العهد محمد بن سلمان، عن إمكانية إقامة علاقة جيدة مع إيران إذا تخلصت من ممارساتها السلبية، فقوبل بترحيب إيراني. هذا، كما اتصل الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان، بالملك سلمان بن عبد العزيز لكسر الجمود بين البلدين عبر تعزيز العلاقات بينهما.
بقراءة هادئة، نستنتج أنّ تحريك الرئيس المنتخب جو بايدن، المفاوضات الأميركية - الإيرانية حول الملف النووي، بعد أن تمّ تجميده من قبل نظيره السابق، دونالد ترامب، إضافة إلى التصريحات الأميركية التي تسعى إلى إعادة التموضع للجيش الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، تحديدًا في العراق وأفغانستان، كما أنّ التمركز الروسي في سوريا، ودعمه لإيران، ودخوله على خط تشكيل الحكومة اللبنانية عبر سلسلة الاجتماعات مع رؤساء الأحزاب اللبنانية، ودخول الصين في اتفاقية القرن مع إيران على 25 عامًا، ودفع مستثمريها للاستثمار في منطقة الشرق الأوسط لتأمين طريق الحرير، كلها اعتبرت مؤشرات حقيقية، ودلالات واضحة على أنّ الإرادة الدولية تسعى لوضع مظلة الاستقرار على المنطقة.
هذا وقد غرّد وزير خارجية أميركا، أنتوني بلينكن، على هامش لقاءات اجتماع المجموعة السبعة، أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها يسعون لإنهاء الصراع في سوريا بالطرق السياسية وبشكل سريع. وسط زحمة التسويات القادمة، هل نستطيع وضعها ضمن إطار سياسة الاحتواء الأميركي للصعود الروسي والصيني في المنطقة، عبر الاعتراف بدور القوى الصاعدة فيها؟ أم هو يندرج ضمن نقل التوتر إلى منطقة آسيا الوسطى والقوقاز لضرب القوة الصاعدة في عقر دارها؟
تتّجه أنظار العالم إلى دول آسيا الوسطى، وحظيت روسيا بالنصيب الأوفر من تركة الاتحاد السوفياتي المنهار، إذ تمثّل الموقع الإستراتيجي للولايات المتحدة للوصول إلى قلب الصراع العالمي، حيث حدود أغلبية الدول المتنازغة معها، إضافة إلى غناها بثروتي البترول والغاز، مما جعلها محط أطماع الكثير من القوى الأميركية. وهذا ما أوجب على روسيا الانتباه إلى أهمية هذه المنطقة الحيوية ووضعها ضمن اهتمامات سياستها الخارجية.
تكتسب منطقة آسيا الوسطى والقوقاز أهمية كبيرة في النظام الدولي من الناحية الإستراتيجية والجيوسياسية لدرجة وصفها «زبيغنيو بريجنسكي» مستشار الأمن القومي الأميركي، باعتبارها تمثّل المتغير الذي يعتبر مفتاح السيطرة على العالم، لأن من يتمركز في آسيا الوسطى ويرسي في قواعدها سيتيح لنفسه القرب والإطلالة الأكثر سهولة والأقل كلفة باتجاه العمق الحيوي الروسي باتجاه الشمال، والعمق الحيوي الصيني باتجاه الجنوب الشرقي، والعمق الحيوي لشبه القارة الهندية وباكستان وأفغانستان باتجاه الجنوب، والعمق الحيوي الإيراني باتجاه الجنوب الغربي والعمق الحيوي لكامل منطقة بحر قزوين بما فيها تركيا باتجاه الغرب. هذا العمق الحيوي لهذه المناطق يشكل مطمعًا مهمًا للولايات المتحدة الأميركية للسيطرة عليه وممارسة النفوذ فيه. لأن السيطرة على موارد منطقة آسيا الوسطى، يتيح لها إمكانية التحكم في إمدادات النفط والغاز والمعادن والموارد الزراعية إلى روسيا والصين.
ومن جهة أخرى، يشعل فتيل الصراع في هذا العمق الحيوي، ما يشكل التهديد الحقيقي لأمن هذه الدول، فيجعل تمددها في منطقة الشرق الأوسط يتقلّص، ويعيد للأميركي دوره الذي فرضه منذ أكثر من عشرين عامًا.
لذا، تكمن أهمية المنطقة في أنها تمثِّل «قلب العالم المتصاعد النفوذ في وجه أميركا». لهذا، وجدت أميركا فيها موطئ قدم إستراتيجي يهدّد أعداءها مباشرة، من الدول المتاخمة للمنطقة خصومًا أو منافسين لها. لذا، يتعين على واشنطن، وفقًا للإستراتيجية القومية للأمن التي أصدرتها الولايات المتحدة عام 1992، القضاء على هذه الدول أو على الأقل إضعافها حتى لا يتمثَّل تحديًا للهيمنة والسياسة الأميركية وفي مقدمتها إيران والصين وروسيا.
** **
- بيروت