لا يمكن لأي فرد منَّا يفهم الفرد المقابل إلاَّ في أوجه تكون ظاهرة للأعيان فمهما حاول المرء إخفاء تلك الأوجه التي تكشف ما يدور في مخيلته للآخرين فالحاسدُ أنكى الأشياء التي تشغل في الجسد أوراما عدة أهمها على الإطلاق القلق.. والحيرة.. والكمد.. والهم.. والخوف بشكل خاصِّ يحسدون الآخرين على محبة الناس لهم أو على إقبال الدّنيا عليهم لا يطيقون تلك النّجاحات التي تتحقق لهؤلاء البشر في هذه الحياة - ويقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} (سورة النساء آية 54)، وقال تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (سورة الفلق 5)، ويقول نبي الرحمة محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه ((إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو قال: العشب)) رواه أبو داود، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) متفق عليه.
فالمرء مهما قدم للحاسد من خدمات جليلة إلا أنه ينظر إليك أنَّك عدوه دائماً لأن أسباب العداوة ما زالت موجودة فيك، وهو فضلك أو كرمك أو أدبك أو مالك أو منصبك أو تواضعك أو أخلاقك، فكيف تطلب الصّلح معه وأنت لم تستر أو تخف مواهبك والحاسد ينظر إليك متى تتعثر في هذه الحياة ويتحرك متى تسقط، ويتمنى متى تهوى، فإن أحسن أيامه يوم يجدك مريضاً، وأجمل لياليه يوم يجدك فقيراً، وأسعد ساعاته يوم تنكب، وأحب أوقاته يوم يراك مهموماً مغموماً حزيناً منكسراً، وأتعس لحظاته إذا اقتنيت، وأفظع خير عنده إذا علوت، وأشد كارثه عنده إذا ارتقيت، فإن ضحكك بكاء له، وعيدك مأتم له، ونجاحك فشل لديه، فإنه ينسى كل شيء عنك إلاَّ الهفوات، ويغفل عن كل أمر فيك إلا الزلاّت، خطؤك الصِّغير عنده أكبر من جبل أحد، وذنبك الحقير لديه أثقل من جميع الكواكب الشَّمسيَّة ولو كنت أسخى من حاتم الطائي أو غالب بن صَعْصَعْة فأنت في نظره أبو دلامة والجاحظ، ولو كنت أعقل النَّاس فأنت في نظره مجنون هذه الأمَّة، الَّذي يمدحك أمامه كذَّاب، والَّذي يثنى عليك في حضرته منافق، والَّذي يذبُّ عنك في مجلسه ثقيل حقير، يُصدَّق من يسبك، ويُحبُّ من يبغضك ويُقرِّب من يعاديك، ويُساعد من يكرهك ويجافيك، الأبيض في عينك سواد عنده، والنّهار في نظرك ينقلب ليلاً في نظره، لا تجعله حكماً بينك وبين الآخرين فيحكم عليك قبل سماع الدعوى وحضور البينة وإظهار حجتك ولا تطلعه على سِّرك فاكبر همِّه أنه يذاع ويشاع، يحفظ عليك الزّلة ويختزنها ليوم الحاجة، ويُسجِّل عليك الغلطة ليوم الفاقة، لا حيلة لك معه إلا اعتزاله والفرار منه، والاختفاء عن نظره، والبعد عن بيته، والانزواء عن مكانه، أنت الَّذي أمرضه واسقمه، أنت الَّذي أسهره وأضناه، أنت الَّذي جلب له همَّه وحزنه وتعبه، وهو الظالم في صورة المظلوم، فحذار منه قبل أن تكون في نظره من الذّئاب فيتغذى بك قبل أن تتعشى به.
إشارة:
يقول الشاعر الحكيم:
حَسَدُوا الفتى إذْ لم ينالوا سعَيهُ
فالناسُ أعداءٌ لهُ وخصومُ
كضرائرِ الحسناءِ قُلن لوجههَا
حسداً ومقتاً إنه لَذميمُ
- وقَالَ زهيرٌ:
مُحسَّدُون على ما كانَ من نِعَم
لا يَنزعُ الله منهمْ ماله حُسدِوا
- وقَالَ شاعر آخر:
همُ يحسدوني على موتي فوا أسفَا
حتى على الموت لا أخلو مِنَ الحسد.