محمد سليمان العنقري
عندما بدأت جائحة كوفيد 19 في الربع الأول من العام الماضي، لم يكن لأحد أن يتوقع حدوثها بكل تأكيد، لكن الأمر الأكثر صعوبة هو عدم القدرة على توقع تداعياتها وأبعادها ومدتها وتكلفتها الصحية والاقتصادية، وعندما بدأت الدول باتخاذ التدابير المناسبة بعد أن اعترفوا بالأزمة كانت المعطيات تعطي أرقاماً متغيرة وتصاعدية لحجم الخسائر المحتملة على العالم، وأين سيكون الضرر أبلغ من غيره سواء على مستوى الدول أو القطاعات الاقتصادية وأيضاً لم يكن لدى أحد جواب ما هي مآلاتها على المجتمعات، وكيف سيكون التصدي الجذري لها، ورغم أن تحرك دول العالم كان سريعاً نسبياً، خصوصاً دول مجموعة العشرين التي اعتمدت عدة مبادرات لمواجهة الأزمة، بلغت تكاليفها في حينها 11 تريليون دولار أمريكي، إلا أن هذه المبالغ زادت بنسب كبيرة فيما بعد، وحتى وقتنا الحالي، وكل ذلك سعياً لتحجيم الأضرار الناتجة عنها والعودة سريعاً للحياة الطبيعية.
فحجم الخسائر التي توقعتها كبرى المؤسسات المالية عالمياً بما فيها صندوق النقد الدولي كان كبيراً منذ البداية، وتحدثت عن أرقام فلكية، بلغ حجمها بالمتوسط أكثر من 28 تريليون دولار، أي أكثر من 30 بالمائة من الناتج العالمي، ويظهر منطقية الأرقام فقدان أكثر من 100 مليون إنسان وظائفهم عالمياً، بخلاف إفلاس الكثير من الشركات نتيجة التعطل شبه الكامل للاقتصاد العالمي، بل وأصبح معلوماً ما هي القطاعات التي تعاني أكثر من غيرها كالسياحة والطيران والترفيه، وفرزت الأزمة تداعيات عديدة فتحت الأعين على مخاطر لم يكن يلقى لها اهتمام واسع، خصوصاً انقطاع سلاسل الإمداد، وضرورة أن تلتفت الدول للتوسع بالصناعات الأساسية في التجهيزات الطبية والغذائية وغيرها من السلع التي ظهر عجز دول عديدة عن تلبية احتياجاتها من السوق المحلي، وظهرت مواقف كانت مخجلة للعالم عندما صادرت بعض الدول شحنات ترانزيت، كانت متجهة لدول أخرى تحمل تجهيزات طبية، وكأنها قرصنة، لكنها تنسب لدول، حيث ظهر أن العالم متجه للفوضى لولا أن تدخلات دول مجموعة العشرين والمؤسسات الدولية كان سريعاً لكانت الأزمة ستنتقل إلى مربع الصدام السياسي، بل وأبعد من ذلك.
لكن اليوم ومع ترخيص عدد كبير من اللقاحات وزيادة وتيرة الإنتاج لها، ووصول عدد الجرعات التي أعطيت بكل دول العالم إلى حوالي 1.3 مليار جرعة أي ما يعادل قرابة 20 بالمائة من سكان الأرض، وحوالي 38 بالمائة من المؤهلين للحصول على اللقاح حسب العمر أي من تجاوز 16 عاماً، حيث أصبح ممكناً السيطرة على الجائحة بالمناعة المجتمعية وارداً خلال هذا العام، فحوالي 16 فرداً نال اللقاح من كل 100 فرد عالمياً، وتتباين النسب، فبعض الدول تعدت 70 بالمائة نسبة من حصلوا على اللقاح خصوصاً في أمريكا وبريطانيا، ومن الممكن أن تصل أوروبا وأهم دول آسيا ودول الخليج للمناعة المجتمعية خلال الثلاثة شهور القادمة كمتوسط إذا ما استمرت وتيرة إنتاج وإعطاء اللقاحات بالمعدل الحالي، فجميع تحورات كورونا الحالية أو القادمة ما سيوقف تأثيرها هو سرعة المناعة المجتمعية، فالاقتصاد العالمي لم يعد بالإمكان أن يتعرض لأي تراجع محتمل، فالتكاليف كبيرة والذخيرة لدى الدول الكبرى لم تعد بنفس الحجم الذي تم ضخه سابقاً، فالاتحاد الأوروبي أعلن أن تدابير التعافي من جائحة كورونا كلفتهم 5.8 تريليون دولار، وهي أرقام ضخمة تظهر حجم التداعيات الكبيرة، مما يعني أن أوروبا والعالم متجهون بخطوات متسارعة لاتخاذ كل ما يلزم للعودة للحياة الطبيعية.
الاقتصاد العالمي مر منذ بداية هذا القرن وفي العقدين الأولين منه بأزمتين ضخمتين، الأولى كانت مالية عام 2008 والثانية اقتصادية في العام 2020 وما زالت قائمة، وحجم الخسائر بهاتين الأزمتين يبدو رقماً فلكياً قد يتجاوز 50 تريليون دولار ما بين خطط الدعم والتحفيز والخسائر التي تحققت فعلياً، ونما معهما حجم الديون السيادية منذ بداية هذا القرن بمقدار يقارب الضعف لتصل لقرابة 68 تريليون دولار حالياً، أي 79 بالمائة من الناتج الإجمالي العالمي، ولذلك لا خيار إلا بأن يحمل هذا الصيف معه عودة الحياة الطبيعية وفتح الاقتصادات، وذلك من خلال إلزامية أخذ اللقاحات لفئات عديدة للإسراع بالوصول لهدف حماية المجتمعات، ومن بعدها معاينة الأضرار بشكل دقيق لتعالج تفصيلياً، والانتقال لمرحلة تنموية بمقاييس تتناسب مع مرحلة ما بعد كورونا.