سام الغُباري
أحل الخالق الصيد، وأدان الخلق التصيد لأنه يلقي بسنارة الفاعل في ماء عكر، وأجاز الناس السياسة باعتبارها فن الممكن، إلا أنهم رفضوا التسييس لأنه البوابة الأولى للفتنة.
في اليمن تبدو الشائعات أقوى من الحقيقة، والنميمة أعلى من المروءة، وهي حالات بديهية في حربنا المأساوية التي أسقطت قيماً كبرى، وأبرزت غوغاء أرهبوا العقلاء والحكماء، فانكفؤوا على أنفسهم وامتنعوا عن قول كلمة التقوى.
في الماضي كان الكاتب في جريدة ورقية ينشر رأيه، وتأتي الردود بمعايير ملتزمة بالحجة والدليل والمنطق وعدم الافتراء الشخصي أو الإرهاب الفكري، وكان المؤلف يتلقى ردودًا بعيدة الأمد على مؤلفاته، تمنحه مساحة من التأمل والتصحيح، وبين كل هذا وذاك كان المتحاورون ممن يشار إليهم بالنضج والثقافة، فينتهي حوارهم بعصف ذهني مفيد.
في زمن الرد السريع يتلقى الكاتب أو السياسي صدمات مباشرة في غضون ثوانٍ على رأيه أو موقفه، وهناك كتائب جاهزة للردح والتشهير والإشاعة، ولكن الأخطر أن الغالبية من الصامتين كان يجب ألا يصمتوا، لأنهم فئة ناضجة بات من الضروري أن تحضر بشجاعة إلى وسائل التواصل لتوجيه الرأي العام وإعلامه بالحقيقة.
خذ مثلًا: بنت دولة عربية قبل أشهر مجموعة سكنية في تهامة، واحتفل بها مغردون كُثر يلمزون إلى السعودية، وعندما ترد عليهم أن البرنامج السعودي لإعادة إعمار اليمن الذي قدمت المملكة من خلاله 2.2 مليار دولار دعماً للبنك المركزي وينفذ 198 مشروعًا ومبادرة فاعلة منها ما أنجز والبعض الآخر في طريقه للتسليم وقدّم بالصورة والدليل وعلى الأرض منحة مشتقات نفطية لمدة عام بقيمة 422 مليون دولار لتشغيل أكثر من 80 محطة بالمشتقات النفطية لتوليد الكهرباء ودعم الاقتصاد اليمني، وشيّد 26 مدرسة ومبنى حكومياً، وطوّر ثلاثة مطارات يمنية.. يرد عليك المُشكك قائلًا: إنهم يريدون احتلال اليمن، وأنت شخص مطبل!.
هذا الظالم ليس حوثيًا، لكنه يتخذ موقفًا عدائيًا تلقائيًا ضد المملكة، رغم أن هذه الأعطيات لمعالجة وضع مأساوي تسبب فيه الحوثيون ورؤيتهم العنصرية لحكم اليمن
هناك أيضًا صور انتقائية اقتصها البعض، ويبدو فيها السفير السعودي «محمد آل جابر» بجوار أرملة عجوز قاعدة على عجيزتها وحولها كمية من الاحتياجات الغذائية، فطارت الصورة إلى فضاءات واسعة، وكثر اللمز والتشهير والصياح قائلين: كل هذه الصور من أجل علبة زيت وكيس دقيق.
ولم يسألوا أنفسهم أن هذه الحصة الغذائية جزء من قافلة ضخمة وقوافل مستمرة، وزعت على محتاجين بالآلاف، والحقيقة أنهم يعلمون ذلك، لكنهم يستهوون النيل من المملكة حتى صار الأمر عادة لا يبتسمون إلا بها.
في زمن التصيد، تُستهجن صورة لسفير دولة جارة يعمل فيها أكثر من 2 مليون يمني منحوا فرصة العمل ويعيلون قرابة 14 مليوناً من ذويهم في بلادنا ويحولون أكثر من 4 مليارات دولار من العملة الصعبة التي ساهمت بشكل رئيس في دعم الاقتصاد الذي دمرته الميليشيا، وتُباح انتهاكات وجرائم الحاكم الفارسي لصنعاء المحتلة «حسن إيرلو»، وكأن البوح بنصرة الخليج وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية شكل من أشكال الانتهازية، هذه الصورة يجب أن تختفي، وهذه الانطباعات التي يعززها لحن القول ينبغي أن تلتزم بكلمة التقوى، وفي فضاء الصدق يلزم المختفين من كبار اليمانيين وأقيالهم أن يظهروا بعد طول احتجاب دفاعًا عن بلدهم وحلفائهم العرب.
لم تكن اليمن هكذا، ولا الذين أعرفهم كانوا بهذه الحساسية المتشفية، للحرب دور في ضياع الرؤى، وانتزاع المشاريع الصغيرة خارج نطاق الدولة أثار شهية الابتزاز، لكنه دومًا لا يُمثل الصورة الكاملة ويؤدي إلى فتنة حقيقية في الانطباع العام، ولا أظن أن شيئًا قد يهزم المتشككين سوى النصر على عنصرية الحوثي ومموليه ودفن نظرية الولاية السُلالية إلى الأبد، ولن يتحقق هذا طالما بقي القادرون على العطاء والعمل متخفين وراء أستارهم ومبرراتهم.
وإلى لقاء يتجدد
** **
- كاتب وصحافي من اليمن