توج مرور خمسة أعوام لإطلاق رؤية2030 بلقاء ملهم مع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد -حفظه الله - ظهر فيه مخاطبًا، -بلغة الأرقام- الرأي العام الداخلي والخارجي عمَّا حققته المملكة من إنجازات، وما وصلت إليه من أهداف محورية، تعد مكاسب عظيمة مقارنة بالفترة الوجيزة من عمر الرؤية، وبعضها ربما جاوز مستهدفات عام 2030؛ ما يبرهن وجود رؤية واضحة واقعية نفذت بهمة عالية وفق تخطيط علمي مدروس.
بالمجمل عُدّ هذا اللقاء استثنائيًا، حيث استطاع بحضور مهيب، بحلة القائد الفطن، والمفكر الإستراتيجي، والمخطط الاقتصادي، وقبل ذلك الإنسان الملهم؛ أن يبرهن سمو الأمير كيف أن هذه الرؤية الجريئة الطموحة، واقع يتحقق، فأجاب بسلاسة وشفافية وعلمية عن تساؤلات عدة وأشبع فضول كل متسائل لماذا هذه الرؤية؟ ومترقب ماذا حققنا؟ ليقطع الشك باليقين.
لست بصدد أن أسهب بتعداد تلك المنجزات فقد يطول الحديث، إلا أنني سأتوقف قليلًا بحكم تخصصي عند مكامن القوة في خطاب سموه، بجانبيها: الإنساني الذي جسد الإنسان الملهم في شخص سموه، والعلمي في تبني منهج التخطيط الاقتصادي الذي يهدف لتحقيق التنمية الاقتصادية.
حيث ظهر الحس الإنساني عاليًا في خطاب سموه: «... مصلحتي أن يكون الوطن عزيزاً والمواطن راضياً كل يوم عن اليوم الذي قبله...»، وفي قوله: «...آخر حاجة بالنسبة لي لا أريد أن أؤلم أي مواطن سعودي لكن واجبي أن ابني له مستقبل طويل الأمد..»، وقوله: «المواطن السعودي أعظم شيء تملكه السعودية للنجاح وبدون المواطن السعودي ما كنا لنستطيع أن نحقق أي شيء حققناه..».
عزَّز هذا الخطاب قيم انتماء المواطن لهذا الوطن الشامخ العزيز، فعلّق النجاحات التي تحققت بمكامن القوة والقدرات الفريدة التي يمتلكها الشعب السعودي.
يقول سمو الأمير محمد بن سلمان: «قصص النجاح دائمًا تبدأ برؤية، وأنجح الرؤى تلك التي تبنى على مكامن القوة». فكانت هذه الرؤية الشاملة لجميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كأكبر المشاريع التحولية، ولكي تكون هذه الرؤية واقعية وقابلة للتحقيق، ترجمت وفق منهجية علمية بتبني خطوات الإدارة الإستراتيجية (Strategic Management) بدءًا من وضع رؤية واضحة معتمداً على التحليل الدقيق للواقع وتشخيصه وجمع المعلومات، ثم صياغة الإستراتيجية ووضعها موضع التنفيذ، ثم التقويم المرحلي وفق فترات محددة، واضعًا نصب عينيه أهداف مجتمع حيوي، واقتصاد مزه، ووطن طموح.
فبادئ ذي بدء كشف هذا اللقاء عن مبررات ومنطلقات الرؤية السعودية:
إن المتتبع للتغييرات الديمغرافية للمملكة العربية السعودية يلحظ النمو السكاني من ثمانية ملايين نسمة منذ الثمانينات والتسعينات إلى حوالي عشرين مليون نسمة هذا اليوم، واعتماد المملكة سابقًا بشكل رئيس على النفط الذي استطاع تغطية حاجاتنا بذلك الوقت، إلا أن هذا النمو السكاني المطرد وما يقابله من نمو طفيف في الناتج المحلي، وكذلك التحديات التي ستجابه النفط في الأربعين سنة القادمة من انخفاض سعرها وتراجع الطلب عليها، إلى غيرها من التحديات، قد تؤدي لتبعات اقتصادية على الوطن والمواطن؛ مما دفع بقوة إلى استغلال فرص هذه البلاد وخيراتها المتعددة.
هكذا أوضح سموه منطلقات رسم رؤية طموحة كرؤية السعودية 2030 .
وانطلاقًا من أهمية تشخيص الواقع كأولى خطوات الإدارة الإستراتيجية، بدأ برصد التحديات والمشكلات الكبرى التي قد تقف عائقًا دون تحقيق الأهداف، فمن عدم وجود مركز للدولة لوضع السياسات التي تدار بها البلاد، إلى مشاكل الإسكان والبطالة بوصفها مؤرقة للمواطن، ناهيك عن ضعف كفاءة الموارد البشرية؛ كون المورد البشري العامل الحاسم في دعم صنع القرار وتحقيق مستهدفات طموحة.
من جانب آخر، ظهر الحرص على اقتناص الفرص ومكامن القوة لاستثمارها بتعظيم حجم الأثر عند وجود بدائل عدة، وتقليل حجم الأثر عند وجود خسارة واقعة لا محالة، وهي الطرق العلمية للتعامل مع البدائل عند صنع القرار. وكمثال على الحالة الأولى؛ الاستثمار في النفط من خلال الصناعات التحويلية مقارنة بتصدير المواد الخام، وعلى الحالة الثانية؛ بدلًا من تخفيض الرواتب أو إلغاء البدلات أو التراجع عن مستهدفات تضمن النمو المستدام والحياة الكريمة المستدامة، تم رفع القيمة المضافة إلى خمسة عشر في المائة بوصفها البديل الأخف ضررًا.
وامتدادًا لما سبق من خطوات الإدارة الإستراتيجية، تم تأسيس سلطة تنفيذية وفق حوكمة رشيدة؛ لصياغة الإستراتيجيات ووضع السياسات التي تُدار بها الدولة وفق المستهدفات، ومواءمتها بين الجهات وتحديد الدور المطلوب تنفيذه من كل وزارة، مستلهمًا منهجية التفكير المنظومي Systematic Thinking لضمان تكامل الأدوار بين الجهات ذات العلاقة عند التنفيذ.
وباعتبار أن مرحلة التقويم من أهم مراحل الإدارة الإستراتيجية تعقب ما تقدم ذكره من مراحل، أتت مرحلة تقويم ما تحقق من مستهدفات خلال الثلث الأول من عمر الرؤية، وكشف هذا اللقاء عن كسر أرقام عام 2020 وصولًا إلى مستهدفات رؤية 2030 الكبرى. ومن أعظم ما تضمنه اللقاء من منجزات، حل مشكلة الإسكان بارتفاع نسبة من يملكون مساكن من حوالي سبع وأربعين في المائة إلى ستين في المائة خلال الأربع سنوات الماضية، نمو الاقتصاد في القطاع غير النفطي بمعدلات طموحة تخطت حوالي أربعة ونصف في المائة حتى في ظل جائحة كورونا ولم تتراجع عن المستهدف (خمسة في المائة) إلا بمعدل نصف النقطة، وعليه ارتفعت الإيرادات غير النفطية من حوالي مائة وستة وستين مليار ريال إلى حوالي ثلاثمائة وخمسين مليار ريال، انخفاض نسبة البطالة من حوالي أربع عشرة في المائة إلى إحدى عشرة في المائة في الربع الأول من عام 2020، حيث كانت المملكة قبل انتشار الجائحة أفضل دولة في G20 باعتبارها الدول ذات الاقتصادات المتقدمة، وتسعى للوصول إلى سبعة في المائة بحلول عام 2030 والذي يعد معدلًا طبيعيًا للبطالة على المستوى العالمي، تطبيق التعاملات الالكترونية في تقديم الخدمات للقضاء على بطء الإجراءات الإدارية الورقية وصعوبة الانتظار والتنقّل بين الجهات الحكومية، تضاعف الاستثمارات الأجنبية من خمس مليارات سنويًا إلى سبع عشرة مليار بنسبة ثلاثة أضعاف تقريبًا، نمو السوق السعودي من أربعة آلاف نقطة إلى حوالي عشرة آلاف نقطة، دعم صندوق الاستثمارات العامة لينمو حجمه من أربعة تريليونات عام 2025، وصولًا إلى عشرة تريليون عام 2030؛ ليصبح من أعظم الأدوات لقيادة التنمية إلى جانب الشركات الكبرى للتخلص من الاعتماد الرئيس على الحكومة.
هذه وغيرها من المنجزات التي قد لا يتسع المجال لذكرها تثبت أن الرؤية، باعتمادها على منهجية التخطيط الاقتصادي، تتجه لتحقيق مالية مستقرة قوية، للحفاظ على اقتصاد ينمو وينهض بأدوات جديدة متنوعة في إطار التنمية الشاملة والمستدامة. وبرهن هذا اللقاء على أننا وبفضل الله ننعم بقيادة رشيدة وضعت مصلحة المواطن السعودي على قائمة أولوياتها.
** **
د. نهلاء سعود سالم المطلق - دكتوراه في تخطيط التعليم واقتصادياته - تعليم حائل