د.جيرار ديب
بعد كارثة مرفأ بيروت، في 4 آب 2020 ، سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لفرض مبادرته الإنقاذية في لبنان، عبر جمع الأفرقاء في قصر الصنوبر، وحثّهم على تشكيل حكومة تكنوقراطية لإخراج لبنان من أزماته.
في الشكل، تظهر فرنسا بمثابة الأم الحنون للبنان، ولكن في المضمون تحمل المبادرة إعادة تصويب الهيبة للدبلوماسية الفرنسية الدولية بدءًا من تطبيق مبادرة الرئيس ماكرون. ولكن، هل سيكون لبنان الحجر الأساس الذي سيعيد بناء هيبتها المفقودة من جديد؟ أم ستصطدم بعقبات التعقيدات والكيديات الداخلية للسياسات اللبنانية، أضف إليها تدخلات خارجية قد تنهي المبادرة، وتنهي معها طموحات ماكرون بالتجديد لولاية ثانية في قصر فرساي؟
عرفت الهيبة الفرنسية مجدها مع الحملات النابوليونية التي أدخلت فرنسا في رسم السياسات الدولية، واستمرّ مجد سياساتها الدولية في مرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى أن سقطت في الشرق الأوسط مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 . خسرت الدبلوماسية الفرنسية هيبتها، مع بروز الحرب الباردة، وحتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 ، لتستبدل بصراعات البقاء في بعض مناطق الساحل الإفريقي، التي تشهد اليوم تزاحمًا من قبل الدول الصاعدة لاسيما الصين وروسيا وتركيا.
مما لا شك فيه، أنّ إدارة الرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب، في سياسته الانعزالية، من خلال تجنّب التدخلات المباشرة في السياسات الدولية، ترك فراغًا كبيرًا على الساحة الدولية، ما سمح للطامعين بإعادة التموضع في النظام العالمي الجديد، وكانت فرنسا واحدة منهم. لذا، وجدت فرنسا ضالتها في لبنان، واستعجلت العمل على إطلاق المبادرة، كي تقطع الطريق على كل من يريد الاصطياد في الماء العكر، ويسعى لوضع العصي في الدواليب.
تنظر الدبلوماسية الفرنسية إلى لبنان على أنه ساحة لاستعادة الهيبة المفقودة كي تعيد مكانتها بين الدول صانعة القرار، ورهان اقتصادي من خلال السماح لشركة توتال التنقيب عن النفط والغاز لتكون فردًا في نادي الدول الشرق أوسطية في تصدير الغاز، وكي يصبح لها موطئ قدم على البحر المتوسط من بوابة مرفأ بيروت، الذي يشهد أيضًا زحمةً من المبادرات لإعادته على ما كان عليه، وآخر المبادرات كانت ألمانية.
صحيح أنّ لبنان يقع ضمن الهيمنة للنفوذ الإيراني، عبر تمركز حزب الله الموالي لها في دوائر القرار، فهو لا يتوانى عن الدفع بحكومة لبنان للتوجه نحو الشرق، وربطه بمحور الممانعة للسياسة الأميركية بقيادة الصين؛ إلّا أنّ الجانب الفرنسي يعوّل لإحداث الخرق وفكّ لبنان من عزلته، على الدعمين الأميركي والعربي الرافضين للنفوذ الإيراني في لبنان، وما الجولة الأخيرة لوزير خارجية مصر سامح شكري، واستثنائه من اللقاءات مع حزب الله والتيار الوطني الحر، إلا دليل واضح على محاولة تطويقه، دعمًا للمبادرة الفرنسية. هذا ما أكدته أيضًا زيارة وكيل الخارجية الأميركي ديفيد هيل، الذي أدرج على جدول لقاءاته مختلف المسؤولين باستثناء التيار الوطني الحر وحزب الله.
من النفوذ الإيراني المتمركز في لبنان، إلى اللاعب التركي الحاضر وبقوة من البوابة الشمالية؛ إذ يعمل أردوغان على معاكسة السياسة الفرنسية الخارجية، فمن الساحل الإفريقي، وصولاً إلى مرفأ بيروت، مرورًا بالحرب الكلامية التي وصلت إلى أدنى مستوى من التخاطب الرسمي بين أنقرة وباريس، يكمن خطر ضرب الهيبة للدبلوماسية الفرنسية في سياساتها.
في حرب ضرب الهيبات، تعرّضت رئيسة المفوضية الأوروبية، الألمانية أورسولا فون دير لايين، لموقف محرج الأربعاء 7-4-2021 ، خلال زيارة رسمية قامت بها إلى تركيا برفقة رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال. فأثناء اجتماع ثلاثي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة، اضطرت للجلوس على أريكة بسبب عدم وجود كرسي مخصص لها.
الحادث ليس عرضيًا بالطبع، ولا يتعلّق بالبروتوكولات بقدر ما يتعلّق بالمساس بضرب الهيبة المقصودة للاتحاد الأوروبي. فالخلاف التركي - الأوروبي، لم يعد خفيًا على أحد، فتركيا التي كانت تسعى جاهدة لتكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي، وجدت بأنّ ذلك مستحيل لأسباب كثيرة على رأسها الرفض الفرنسي الذي لم يتوان عن دفع الاتحاد الأوروبي لفرض العقوبات على تركيا، وأخذ حلف الناتو على التصعيد في وجه تركيا في دعمها لأذربيجان ضد أرمينيا.
لذا، عمدت تركيا إلى التضييق على الدور الفرنسي، عبر كسر هيبة الاتحاد الأوروبي، بهدف التقليل من شأن العقوبات التي لا يتأخّر وزير خارجية فرنسا، جان إيف لودريان، بالطلب من فرضها على المسؤولين اللبنانيين المعرقلين للمبادرة الفرنسية. تدرك فرنسا، أنّ في الداخل اللبناني من لا يريدون لمبادرتها النجاح، لارتباطهم بسياسات إقليمية، وتموضعهم ضمن محاور الصراع.
تتأرجح الهيبة الفرنسية عبر مبادرتها في لبنان بين السياسة التركية، ومثيلتها الإيرانية اللتين تسعيان لمدّ نفوذهما عبر أدواتهما في الداخل. كما وأنّ النكد السياسي الداخلي، والعرقلات التي قد تصل إلى تفجير البلاد عبر قانوني الترسيم الحدودي والتدقيق الجنائي، إضافة إلى الحراك الرافض للمنظومة السياسية القائمة بأجمعها، كلها عوامل تشكل عقبات رئيسية أمام الدبلوماسية الفرنسية؛ فإمّا أن تنجح وتنعكس هيبتها على الساحة الدولية، وإمّا أن تنسحب لتعيش تقوقعًا داخليًا لعقود قادمة.