د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تتشكل وتنمو صورة التنافس الشريف في بيئات العمل ذات النواتج المقنعة فالعمل ليس هدية، بل إنجاز واستثمار ويصبح عند ذاك مؤشراً على قوة النتاج والنتيجة «وذلك ما كنا نبغِ» وقد لا يتعدى الأمر عند المطلع المتعجل محض حراك من قطبين تجمعهما أهداف مشتركة ؛ أو قد يكونون أقطابا أو جماعات يشتركون في صناعة واحدة، ولكن الحقيقة أن «الأعمال بالنيات» التي يضمرها كل فريق وكل فرد وجماعة، فالتنافس النامي المثمر يعني أن نحمل خطا فكريا مقابلا للآخر ليكون اللقاء احتفاء ببضاعة جيدة نافعة، وحيث إن واقع النهوض في المؤسسات يحتم الانضمام للآخر والاتحاد معه، وتحسّس مكامن الانطلاق نحو رحلة التسامي؛ أما ما دون ذلك من حراك تتقطع متونه فهو تنافس محموم وتبارٍ مذموم، وقد بلغ التنافس المحموم في بعض مواقعنا حدا غابت في أو حاله مهامٌ أساسية، وغُيِّبتْ أهدافٌ سامية، وتحولت المصالح العامة إلى مساحات من تحقيق الحضور في أروقة مثقلة بهيمنة الذاتية، وتلذذا بذائقة أبي فراس عندما قال:
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا متُ ظمآناً فلا أُنْزِلَ القطرُ
ومن المنظور النفسي نعتقد أن رصد تلك الصراعات التنافسية يمكن تصنيفها ضمن قائمة الخلل في بناء بعض المؤسسات، عندما يكون هناك (شركاء متشاكسون) تربعوا على مسؤوليات مشتركة، فأصبحتْ تلك المواقع غير ودودة، وغير ممهَدَة للإنتاج، وليس فيها حيزا أو مطَلا على شموس التنمية وبواباتها...
فكم يؤلمنا الانتقاص من الآخر لأنه قرين أو شريك في ذات المسئولية، كما هي دروب الجاهلية التي جهر بها شاعرهم مفاخرًا..
«ونشرب إن وردنا الماء صفواً
ويشرب غيرنا كدرا وطينا»
وكم تقابِلُنا كثيرٌ من المنتجات وقد حُلَّلت بشكل سطحي بليد؛ يستغبي البشر، لأن هناك صراعاً تنافسياً بين المحللين أنفسهم جعلهم غير قادرين على الوصول للأبواب المفتوحة على الأماكن المشرقة، وكم سُحق تميز، وتفتتْ مبادرات قادمة قبل وصولها إلى موانئها.
لا نريد أن نكون في مدينة السندباد الأسطورية، ولا نرافق أفلاطون في مدينته المثالية، ولكننا نريد أن نعيد استيلاد ثقافة المسؤولية، وخصائص التنافس النامي الشريف في مؤسساتنا.
يقول أدونيس «إن تحرر الذات لا يكون في الهيمنة على الآخر، واستلاب فكره ونتاجه، فليس التحرر امتلاكا ولا إخضاعا؛ إنه كالضوء والضوء لا يمتلك بل يشع».
وإذا كانت التنظيمات تستلزم التشارك في المسؤولية الواحدة، فلا بد من تكافؤ القدرة، وتساوي المقومات لحماية القرارات من التأرجح، ومن كثرة الثقوب، وكثرة التعرض لعوامل الهشاشة وافتقاد الثقة وحكايات الأخذ والرد، وروايات المسند والمسند إليه؛ ولا بد من التعامل الواعي مع العثرات ومعالجة أقفالها، والرغبة الملحة في الالتقاء والمشاركة، والوعي المتقدم الذي يؤهل للبقاء، ويدفع بالعمل إلى المعطيات المكتنزة بالإيجابية، ولا بد أيضاً من قراءة مشتركة لأوراق الواقع وشروطه، ومعرفة مشتركة أيضاً لدقائق ومنطلقات النهوض، والحوار المشترك البناء، وعدم نفي ومصادرة الرأي الآخر خاصة إذا ما عُرف بالأجدر والأعمق، والوقوف على مصبات النتائج، ومفاصل تكوينها وقوفا جادا يتساوى فيه التمتين مثلما بذل في تمتين المنابع، ويتوج ذلك كله باتساع الأفق لصياغة ذاكرة مفتوحة للتعامل مع المواقف تعاملاً مشتركاً يُسهم في دفع حركة المنتج داخل أروقة المصانع وخارج دوائر الذاتية؛ لتضاء الآفاق في كافة اتجاهاتها، وتتجه جميعها نحو الشمس، وتحفر قنوات السقيا، وتعبد الطرق للمسير، فإذا تساوى منسوب المياه في السدود انسابت الجداول، وعم الرخاء والنماء، وانبلجت طاقات الضوء وأزلفت للمتقين غير بعيد!