د. تنيضب الفايدي
عبق تاريخي، ينبعثُ من منبع المجد، وموئل الفخر، ورمز الخلود، من مدينةٍ افتتن بها الجميع، حتى وصل الهيام بها حد الشعر، ذكرها روْضاً، وزهراً، وأرَجاً، الشاعر الجاهلي (الأعشى: ميمون بن قيس) سكنها عشقاً، وذاب بها وجداً، حيث حبيبته التي لا يطيق لها وداعاً. إنها الرياض، مدينة تمتزج بالماضي، وتنصهر في الحاضر، تفوح بعطر الازدهار، فينتشي كل ما حولها، تتجدد صحراؤها فتتنفس الزمنَ الجديدَ، ثرى وثراءً.
هي مدائن في مدينة، عشقت جميع الجهات فاتسعت لتحتضنها، يكلُّ البصرُ قبل أن يحيط بها، إنها درة العواصم، تضيء علماً وتشعُّ معرفةً حيث الجامعات، والكليات، ومئات المعاهد والمدارس، ملكت ناصية الحضارة، وتوافرت لها معطياتها، فشوارعها واسعة، وميادينها فسيحة، وإداراتها ومبانيها، تجاوزت هامات السحب، وهناك مئات المصانع، والمعارض، والأسواق التي تذخر بأحدث المنتجات، كما تنوعت المنتزهات والحدائق، وتبوأت القمَّة عمراناً، أو كأن قدِ، وتستشرف المستقبلَ بكلّ شموخ، وتعتزّ بماضيها فتعبق منفوحة، والبطحاء، والصالحية، والحلة، ودخنة، والملز، والوشم، والناصرية، وخريص، والمربع، والعليا، والنخيل، والمصيف، والروضة، والنسيم، والشفاء، وحي الصحافة، وكل مكان فيها بجود أهلها، وتتمنع بقوة رجالها.
إنها الرياض.. منبت العز:
وكلّ امرئ يولي الجميل محببٌ
وكلّ مكانٍ ينبتُ العزَّ طيِّـبُ
هام بها كثير من الشعراء، فكتبتهم شعراً، وخلدت قصائدهم يناجيها أحدهم:
نجوى الرياض مشاعرٌ تتعددُ
وهوى الرياض قصيدة تتجددُ
خلّ الرياض تبثّ نجوى عشقها
للزائرين .. فبابها لا يوصد
يا درّة الصحراء أعشبَ خاطري
لما رأيتكِ شعلة تتوقدُ
وهذا شاعر يُنْجِدُ حباً:
سلام على رايةٍ لا تعاض
على أهلها..
رملها..
عشقها، والحياض..
سلامٌ على واحة العنفوان (الرياض)
والرياض جمع روضة وهي البساتين والحدائق الغناء، ولعل سبب تسميتها بذلك أنها إحدى المناطق القليلة وسط الصحراء التي تمتاز باخضرارها وخصوبة أرضها، والروضة إذا ذكرت طبق عليها قول الشاعر:
أقتل أدواء الرجال الوجد
وقِ نجداً فالغرام نجدُ
حيث الرياض والنسيم أنف
ودنف ما يستفيق بعد
أن الصبا إذا جرت قادحة
نار الغرام ففؤادي الزند
لا تتلق نفحة نجدية
هزلا فهزل النفحات جد
ما كبدي بعدك إلا جذوة
لها بترجيع الحنين وقد
ولم تعرف الرياض بهذا الاسم إلا قبل ثلاثمائة سنة تقريبا، أما قبل ذلك فقد كانت تسمى بـ(حجر اليمامة) التي يعود تاريخها إلى عصور سحيقة حيث كانت تسكنها قبيلتا طسم وجديس من العرب البائدة، وقد ظلت الرياض أو حجر اليمامة طوال عصور حلقة وصل بين شرق الجزيرة وغربها. وخلدت اليمامة في الشعر العربي حيث ارتبطت بكثير من القصص والشعر قال الشاعر:
فأعرضت اليمامة واشمخرت
كأسياف بأيدي مصلتينا
ولأن الجبل (اليمامة) أعرضت كما في البيت السابق، لذا يطلق عليه أحياناً اسم العارض:
قال الشاعر:
وأكاد من شغفي بما أنشدته
أطوي إليك تهامة والعارضا
ويسمى جبل اليمامة طويقاً. قال الشاعر:
ولو أن قلب طويق باح بسره
لم يعد ما هو شفّ عنه فجلجلا
وقد وردت اليمامة وهجر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرضٍ بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامةُ أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب .....) متفق عليه. واليمامة ديار بني حنيفة واشتهر سكنهم حول وادي بني حنيفة واليمامة أشمل من ذلك قال الشاعر الشهير جرير - واليمامة موطنه - متوعداً بعض صغار شعراء بني حنيفة:
أبني حنيفةَ حكّموا سفهاءكُمْ
إني أخَافُ عليْكُمُ أن أغضبَا
أبني حنيفةَ إنّني إنْ أهجُكمْ
أدَعُ اليمامَةَ لاتوارِي أرنَبا
قوله: حكّموا، أي امنعوا ومنه حَكَمَةُ اللّجام.
إنها -الرياض-من مثيرات الأدب ولاسيّما إذا ذكرت معها نجد، اليمامة، وادي حنيفة ورماح.