د.محمد بن عبدالرحمن البشر
العشر الأواخر هي مسك الختام لهذا الشهر الكريم، هي حصاد موسم عظيم، هي فرصة نحمد الله تعالى بها أن بلغنا صيامها وقيامها، وقراءة القرآن فيها، فيها زاد المسافر، ومرتع الموفق الظافر، يجتهد فيها المسلمون، طمعاً في عطاء الكريم، الذي ليس له حدود، وقيامها مشروع في كل مكان، فما بالك بأطهر بقعة، وأجل مكان.
علينا أن نتوقف عند هذا الوقت الاستثنائي لنغتنمه في تغيير الكثير من طرائق حياتنا، وليس فقط الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن، فإذا لم تتمثل أخلاق هذه العبادات في معاملاتنا مع غيرنا، ومع أنفسنا فكأننا زرعنا في صنوان لا يقر فيه ماء، ولا ينبت فيه زرع، بل نكون قد حملنا أمانة بمعرفة الحق من الباطل، ليكون شاهداً علينا، وبعد ذلك نبتعد عنه ولا نعي بما استوجب الله علينا، وبيَّنه في القرآن.
كيف لنا أن نقرأ القرآن الذي تزخر آياته بالحث على مكارم الأخلاق، ولا نمتثل لها، ولا نفعل ما استوجب الله علينا، وبيَّنه فيها، فماذا كان لثمر، من تبتل لا يزهر معه الشجر، ونحن نقرأ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق، كما أن الله سبحانه وتعالى قد مدح نبيه بقوله، «وإنك لعلى خلق عظيم».
لا يمكن بأي حال أن تتقدم الشعوب، وتضيئ الدروب، دون انتشار الأخلاق الفاضلة في المجتمع، وعلى رأسها الأمانة، والصدق في القول والعمل، وفعل الخير، ومساعدة الفقير، وصلة الرحم، وغير ذلك من أفعال الخير، كذلك اجتناب الغدر، والظلم، والحقد، والحسد، والكذب، وتضليل الناس باتباع الهوى، والبحث عن المخارج والمبررات، وانتشار النفاق، وغيره من مساوئ الأخلاق.
في رحلة ابن جبير التي سبق الحديث عنها في مقالات سابقة وهو الرحالة العربي الأندلسي النبلسي المولود في عام 540 هـ، الموافق 1145 ميلادية، ففي تلك الرحلة التي كتب عنها في عام 582 هـ الموافق 1186 م، وصف لنا البيت الحرام، وقيام المسلمين شهر رمضان، في ذلك السلف من الزمان.
يقول ابن جبير في وصفه لما يفعل سكان مكة المكرمة في العشر الأواخر من رمضان، فيذكر أنهم في البيت الحرام، يختمون القرآن كل ليلة وَتَرِيَّة فيها، ففي أولى تلك الأوتار ليلة الواحد والعشرين، من الشهر الكريم، قام أحد أبناء مكة المكرمة بختم القرآن، في حضور القاضي والوجهاء والأعيان، بعد ذلك يقوم أحد أبناء الموسرين من السكان، وهو صبي صغير السن بالخطبة أمام الملأ، بعد تلك الخطبة يدعو والد الصبي الحضور إلى مائدة طعام في منزله، فيها أنواع الطعام وصنوف الحلوى.
في ليلة الثلاث والعشرية من الشهر الكريم، وصف لنا ابن جبير، وصفاً دقيقاً، ذلك الاحتفال بالليلة المباركة، فيذكر أن الإمام الذي أقام صلاة التراويح، وأمَّ المسلمين صبي لم يبلغ الخامسة عشرة من العمر، وهو أحد أبناء الموسرين من أهل مكة، فقد أعدَّ والد الصبي لتلك الليلة عدتها، فقد أحضر والد الصبي ثرياً من الشموع تحفها أغصان تتدلى منها أنواع الفواكهة الرطبة واليابسة، وشموع أخرى أصغر يحف بها أغصان تحمل ثماراً، كما أسرجت المصابيح، ثم أحضر منبراً تجلل بكسوة مختلفة من الألوان، ووضع بجانب المحراب، ثم تحلَّق الحشد المتواجدون في المسجد رجالاً ونساءً حول المنبر، وبعد ذلك قدم الإمام الصبي، وأضواء الشموع تحف به وينعكس ضوءها من وجهه وسائر جسده، ثم برز من محرابه، رافلاً في أفخر ثيابه، بهيبة إمامية، وسكينة غلامية، مكحل العينين، مخضب اليدين إلى الزندين، ولم يستطع الخلوص إلى منبره من كثرة الزحام، فأخذه أحد السدنة على ذراعه، حتى أجلسه على منبره، فاستوى مبتسماً، وأشار على الحاضرين مسلماً.
وقعد بين يديه قراء، فابتدؤوا القراءة على لسان واحد، فلما أكملوا عشراً من القرآن، قام الخطيب، فصدع بخطبة حرك بها أكثر النفوس من جهة الترجيح، لا من جهة التذكير والتخشيع، وبين يديه في درجات المنبر عدة نفر يحملون الشموع بين أيديهم، ويرفعون أصواتهم بقول: يارب، يارب، عند كل فصل من فصول الخطبة، يكررون ذلك والقراء يبدؤون القراءة أثناء ذلك، فيسكت الخطيب إلى أن يفرغوا ثم يعود لخطبته، وقد علَّق ابن جبير على خطبة الخطيب فقال: ولقد استظرف ذلك الخطيب واستنبل وإن لم تبلغ الموعظة النفوس ما أمل، والتذكرة إذا خرجت من اللسان لم تتعد مسافة الآذان، ثم يواصل وصفه قائلاً: إن والد الصبي قد أقام مأدبة طعام خص بها القاضي بطعام خاص.
وأخذ ابن جبير في وصف ليلة الخامس والعشرين من الشهر الكريم، فوصفها كما وصف ليلة الثالثة والعشرين ويكاد الوصف أن يكون متطابقاً من حيث الشموع، والخطيب والصبي وغيره، إلاَّ أنه علَّق على خطبة الصبي فقال إنها «أوقر من الأولى وأخشع، والموعظة أبلغ، والتذكرة أنفع».
ثم أخذ في وصف ليلة سبعة وعشرين، وذكر أن الاحتفال بها كان يتم الاستعداد له قبل يومين، ثم وصف الشمع وصفاً دقيقاً، وكان أكثر عددًا، وأكبر حجماً من سائر الليالي، كما زاد في الوصف بإطلالة صبيان مكة المكرمة الساكنين حول الحرم من شرفات منازلهم، وهم يحملون كرة من الخرق المشبعة بشيء ما، ثم يبدؤون بإحراقها متتابعين وهم يكبرون، فيحف بالحرم ضوء سلب الألباب، وحتى لا تكاد الأبصار تبصر من شدة الضوء، ثم يقوم خطيب الشافعية ليخطب بعد أن صلى ركعتين سريعتين، بعد أن اجتمع الجميع حوله، لكن الصوت لا يكاد يُسمع من شدة الزحام من العوام، وفي مسك الختام ليلة التاسع والعشرين يحتفلون بها كما كانوا يحتفلون بليلة الواحد والعشرين والثاني والعشرين، وهكذا يقضي المسلمون ليالي العشر في صلاة وقراءة، وسماع ذكر، جعلنا الله من المقبولين.