د. محمد بن إبراهيم الملحم
عبر هذه السلسلة من المقالات ركزت خلال أربعة أشهر خلت على نتائج المملكة التي حققتها في تيمز 2019 مبتدئا بالتعليق على النتائج فور صدورها في مقالتين في شهر ديسمبر 2020 وضحت فيها بالأرقام أن نتائجنا ليست مطمئنة ونحن بحاجة إلى كثير من العمل، ثم أسهبت بعدها بمطالبة هيئة تقويم التعليم بمزيد من بيانات الاختبار التفصيلية التي يمكن من خلالها تشخيص أين المشكلة خاصة فيما يتعلق بالمنهج، وأشرت إلى تأكد عامل تأخر طلابنا في مهارات التفكير العليا بمؤشرات كمية من خلال نتائج الاختبار الدولي وبما نعرفه عن تعليمنا بكل بساطة، كما ألمحت إلى علاقة عدم تمكن طلابنا بمشكلة فهم المقروء وضرورة التركيز على إتقان فهم اللغة العربية قبل الرياضيات والعلوم. ثم طالبت بضرورة مراجعة مناهجنا لتتوافق مع المناهج الدولية خاصة في تدريس مستويات التفكير العليا وطالبت بأهمية تكييف المحتوى المحلي بما يتناسب مع واقعنا بدلا من التقليد الأعمى كميا وكيفيا والذي يضر ولا ينفع، وأشرت بعدها إلى أن تدني مخرجات الجامعات أدى إلى تدني المستوى العلمي لعدد معتبر من معلمي الرياضيات والعلوم، وهو أمر محوري هنا، فلا بد للجامعات من حركة تصحيحية، وإضافة إلى ذلك فلا بد من مشاركة وزارة التعليم من خلال تكثيف تدريب المعلمين على رأس الخدمة خاصة في الجانب العلمي، ثم وضحت ضرورة توفيرها للمختبرات والأدوات والوسائل المعينة على تدريس هاتين المادتين خاصة عند النظر إلى صعوبة بعض الموضوعات فيها مما يجعل مهمة المعلم مستحيلة أحيانا فيلجأ الطلاب للحفظ دون فهم بسبب فشل التدريس في مهمته.
ولأن هذه المطالبات قد ينظر إليها إنها مجرد تأملات ذاتية فقد أسهبت في مجموعة المقالات من الحلقة 5 حتى هذه الحلقة في تقديم معايير النجاح (أو الخلطة السرية) التي اتبعتها خمس دول (سنغافورة وألمانيا والبرازيل وناميبيا وولاية ماساشوستس الأمريكية) ليتقدم تعليمها حسب ما تقيسه نتائج الدراسات الدولية وهذه المعايير استنبطتها دراسة للوكالة الأمريكية للتطوير الدولي USAID وبنتها من خلال نتائج دراسة تيمز TIMSS للعلوم والرياضيات، ودراسة بيرلز PIRLS للقراءة، ودراسة بيزا PISA المهتمة بالمهارات الأساسية، ودراسة ساكميك SACMEQ حول القراءة والرياضيات للصف السادس، وبالتالي فإني أعتقد أني بهذه المساهمة لا أقف عند مجرد الاقتراح الذاتي وإنما أحاول جاهدا أن أقدم رؤية علمية أصيلة لأصحاب القرار في المملكة لعلهم يفيدون منها. ولقد قدمت «معايير النجاح العشرة» التي أوردتها الدراسة واجتهدت في تكييفها لبلدنا وواقعنا، وسبب هذا الإسهاب أني أنظر إلى أن وظيفة الإعلام اليوم يجب أن تتجاوز سطحية النقد المحض كوسيلة لتحسين جودة الخدمة المتوقعة إلى المشاركة في تقديم تصور حول «كيف» يكون هذا التحسين، وما مداخله الممكنة، وما نماذجة العلمية، وكيف يمكن مقاربة الواقع المعاش محليا مع التجارب الدولية الناجحة، كل ذلك عندما يقدم في قالب موضوعي وبلغة متخصصة من خلال خبرة عميقة بواقع هذه الخدمة فإن المحتوى الإعلامي يكون ذا معنى وبهدف تنموي واضح المعالم، بل إنه يتكامل مع ما تقوم به المؤسسة التعليمية.
وهناك من يعتقد أن المؤسسات الحكومية لا تعبأ بما يكتب من أطروحات مهما علت قيمتها وتعمقت لغتها، بسبب الرغبة في صناعة النموذج الذاتي الذي ينبع من أطروحات شخصيات المؤسسة أنفسهم لسبك الإنجاز في إطار جهودهم وتكوين قيمة معنوية مباشرة لها، وهذا قد يكون حقا، بيد أنه ضار بدون شك، ومع ذلك فإني لا أتبنى هذا الاعتقاد على الدوام وأسير في منهجي بهذه الزاوية بطرح كل ما يمكنني تقديمه للوطن من رؤى تطويرية أبنيها على دراستي المعمقة للموضوع وتخصصي في التعليم الدولي المقارن، مع خبرتي الطويلة في التعليم ومعايشتي ومتابعتي المستمرة لواقعه الحالي، آملاً ومتفائلاً أن هناك من يمكن أن يلتقط منها ما ينفع ويحوله إلى مشروع حقيقي بشكل أو بآخر، حتى لو لم ينسب لي شيئا من الفضل، فهدفي أن يرتقي تعليمنا وتنعم الأجيال المقبلة بما يليق بهم من خدمة تعليمية لائقة ترتقي بالوطن وتحقق طموحاته الراقية التي استمعنا إليها في كلمة سمو ولي العهد حفظه الله في لقائه التلفزيوني مؤخرا، كما قرأناها قبل ذلك في وثائق الرؤية الطموحة التي وضعها بكل اقتدار وبشكل علمي رصين يليق بوطننا الغالي.
من خلال التحليل العلمي ونظرات المتخصصين تتقدم الدول في تعليمها لتتفوق بعد ذلك في مجالات التنمية المختلفة سواء التصنيع أو الطب أو التقنيات أو الاقتصاد وبدون شك في كل مجالات التحضر Civilization التي تصنع المجتمع المدني المتقدم، فهل تعليمنا سيصنع لنا هذا المجد يوما ما؟!