د. عبدالرحمن الشلاش
أثناء تصفحي لدرجات طلابي في الكلية لاحظت تباينا كبيرا بين درجاتهم في المقررات النظرية والمقررات العملية. في المقررات النظرية مثل مواد الثقافة الإسلامية واللغة العربية والقانون والإدارة وعلم النفس وغيرها من المواد التي تم بناء محتواها على أسس نظرية أدبية بحتة تقوم على سرد المعلومات في هذه المقررات وجدت أن الطلبة يحصلون على تقديرات عالية جداً, ومن النادر أن يرسب الطالب أو يحصل على درجة متدنية.
في المقابل وجدت تدنيا ملحوظا في درجات الطلبة في المقررات العلمية والعملية مثل مواد الرياضيات والإحصاء والمحاسبة والحاسب الآلي وهي المواد التي يبنى محتواها بناء فلسفيا يقوم على تمكن الطلبة من المهارات الإدراكية مثل الفهم والتحليل والتركيب والملاحظة والاستنتاج والمقارنة وصياغة الأسئلة والإجابة عليها واستخدام المعلومات في التوصل لنتائج عملية وإثبات صحة بعض النظريات الرياضية والفروض الإحصائية من خلال تطبيق الاختبارات وحل المسائل.
لذلك نجد إقبالا كبيرا من الطلبة على التخصصات النظرية والهروب من التخصصات العلمية والعملية وعن أي تخصصات تتضمن خططها الدراسية مواد علمية والتي بالكاد يتجاوزها الطالب وأقصى طموحاته أن يحوز على الدرجة الصغرى وتقدير مقبول, أما المواد النظرية فلا تحتاج من الطالب إلا الحفظ والاستظهار وهي أدنى مهارات الحصول على المعرفة وهنا غياب تام لتشغيل العقل فالاعتماد بالدرجة الأولى على نقل المعرفة وتوارثها من جيل سابق إلى جيل لاحق دون تطوير يذكر لذلك يتخرج الطلبة ولديهم فتات لا يذكر من المعرفة دون أن يمتلكوا المهارات العملية, وبالتالي يخفقون في الحياة العملية وهي حياة تفترض أن يمتلك الملتحق بها مهارات عالية في التفكير والتخطيط والقدرة على توليد الأفكار الإبداعية وحل المشكلات والقدرة على التعامل وبناء العلاقات والتأثير والإقناع وفنون التفاوض, وهي مهارات تتطلب فكراً عالياً وذكاء فائقاً وليس مجرد معلومات تتبخر مع مرور الزمن ما لم تدعم بالجانب التطبيقي والممارسة واكتساب الخبرة.
هذا الواقع غير المرضي يفرض على القائمين على التعليم الجامعي إعادة صياغة المقررات ليأخذ البعد العملي فيها الجانب الرئيس وليس الهامشي, وتفعيل الجانب الفلسفي القائم على تنشيط العقل وتفعيله لأن تعطيل العقل وتقديم المعلومات المعلبة والجاهزة التي لا تتحدى عقل الطالب وتحرمه من التجربة العملية يعني أن يتخرج الطلبة نسخا مكررة يحملون فقط كميات مكررة من المعلومات.
إذا ما بادرنا إلى صياغة تعليمنا بصورة تكامل بين المعرفة والمهارات والجوانب العلمية والعملية من المراحل الأولى فإننا سندفع دون شك ثمنا باهظا لهذا التأخير غير المبرر, وستظل طوابير الطلبة تتجه لأي تخصصات تبعدها عن المواد العلمية والعملية وتقربها فقط من المواد النظرية البحتة.