د.فوزية أبو خالد
(3)
كثيراً ما يحدوني تساؤل الأطفال والفلاسفة والشعراء في مسألة الزمن بالمطلق في علاقته بنظام الوجود الحياتي وبعمر الإنسان بشكل عام مما نجد اجتهادات لا تنضب لمحاولة إجابته في مختلف الثقافات والحضارات، ولكن كثيراً ما تصبح مواجهتي مع سؤال الوقت وجهاً لوجه كلما جاء شهر رمضان الفضيل في علاقته بنظامنا الاجتماعي. فلا أدري ما الذي تفعله كيفية حياتنا في رمضان ليتحول الوقت في هذا الشهر إلى مخلوق أثيري لا نكاد نسمع رفيف أجنحته، ويندلع عبير أنفاسه، ونلمح بريق هلته الأولى إلا وينفلت مبتعداً تاركاً لمسة من ريشه وكأنها الدليل الوحيد الذي يدلنا على أن شهر رمضان بالفعل قد مر بنا ولم يكن حلم أو أخيلة.
أفكر في سؤال الوقت إبان شهر رمضان وأمامي صورة بانورامية تفصيلية في الوقت نفسه لحياتنا أو بالأحرى لنظامنا الاجتماعي في رمضان مما كتب كلمة ماكرة وذكية بصدده الزميل القاص محمد علوان، قبل سنوات، متسائلاً «كيف نقلب النظام في سبعة أيام» ويقصد كيف نعود لإيقاع الوقت المعتاد لحياتنا اليومية ما بعد رمضان.
في شهر رمضان ننام أقل ويفترض أننا نأكل أقل أو على الأقل نجتمع على أوقات طعام أقل لاختصار «الوجبات» من ثلاث وجبات إلى وجبتي الفطور والسحور، وتكون ساعات العمل بالنسبة لنظام الوظيفة والنظام الدراسي أقل ومع ذلك نشعر أن اليوم أقصر من المعتاد، وإن جاء شهر رمضان في عز فصل الصيف وفي أيام لا تغيب شمسها إلا في وقت متأخر. وفي ذلك يعترينا إحساس ممض أن الأربع وعشرين ساعة تمضي وكأنها ليست إلا دقائق من ماء منسرب من أيدينا. وعلى أمل استثمار لب الوقت في التفرغ للطاعات يبقى الوقت سؤالا مقلقا في وقتية الحياة نفسها بالمعنى التجريدي، ويبقى سؤالا مقلقا بالمعنى الاجتماعي، كما قد يصير سؤالا محفزا بالمعنى الإنتاجي حيث تشيع في المجتمعات الرأسمالية «المتقدمة» مقولة (الوقت مال) Time is money.
وفي ظني أن سؤال الوقت سيبقى السؤال الذي لن يمل الفلاسفة والشعراء والأطفال والأحرار التساؤل عن أسراره والبحث عن إجابات متجددة له.
* * * *
(2)
وقد عشتُ سؤال الوقت وضغوطاته عملياً وميدانياً في عدة مواقف وعدة حالات وبعدة أشكال من بداية هذا الشهر الفضيل، خاصة الأسبوع الماضي بما لم أستطع فيه تجنب المقارنة بين إيقاع يومي في شهر رمضان العام الماضي بمدينة نيويورك، وبين إيقاع يومي في شهر رمضان هذا العام بمدينة الرياض. جاء رمضان العام الماضي والعالم يعيش لحظة توجس وخوف طاغية من الانتشار الواسع والسريع لوباء كورونا كما يعيش لحظة وداع حزينة يعمقها أنه وداع عن بعد لأولئك الغوالي الذين كانوا يموتون وحيدين في عنابر طبية موحشة قسرية بسبب نظام العزلة العام عبر العالم بما فرض ما يشبه إقامة جبرية عامة على الجميع. بينما حمداً لله يجيء رمضان هذا العام والعالم يعيش لحظة رجاء وأمل كبرى بانحسار الجائحة، خصوصاً لو استطاعت الدول التعاون فيما بينها لتعميم اللقاح، ولو جرى تعميم الوعي بضرورة اللقاح وبفعاليته وأمانه أو لو أصبح إلزامياً.
كنتُ في رمضان نيويورك أفك الريق حوالي الثامنة والنصف مساء على مائدة من ستر الرحمن.. القليل من التمر والقهوة، القليل من الطعام محدود الأصناف الذي يجري إعداده على عجل بعد يوم حافل بالعمل عن بعد. كنتُ في نيويورك أصحو من مطلع النهار السادسة صباحاً على صوت عصافير سدرة القلب وأقضي سحابة واسعة من اليوم مع الكشوف العلمية لأطفال لم يبلغ كبيرهم السابعة.. في اللغة والرياضيات والعلوم والفلك تدخلني تجربة جديدة في تعلم الأبجدية والأرقام، وقراءة أدب الطفل، وعمل تجارب ماء ونبتات وموجودات أخرى عبر المنصة الإلكترونية للمدرسة الابتدائية. كنتُ أعتبر الخلود للنوم الساعة الثانية عشرة ليلاً سهراً مبرحاً، ولم يكن يمضي يوم دون لقاء شعري أو فكري على زوووم في إحدى الجامعات أو المنتديات بأمريكا وبوطني وبالعالم العربي، ومع ذلك كنتُ أمشي بمعدل ساعة إلى ساعتين يومين بمحاذاة نهر الشرقي لمنهاتن أو في ممر «عمارة برحة النهر» وأجدها فرصة للخلوة بالذات ولتعبد سري مشبع بالتهليل والتسبيح والابتهالات. وكنتُ رغم تلك العزلة الحافلة بالانشغالات الصغيرة عن الهواجس الكبيرة لمعضلة الجائحة وقتها، وقلق الفراق لأرضي ومن أحب فيها، أجد وقتاً ضافياً لقراءة القرآن والعبادات الأخرى، وكان أفدح ما أفتقده من أجواء المملكة الرمضانية هو صلاة التراويح والتهجد. وإن كنتُ في رمضان هذا العام بمسقط قلبي الرياض أعيش نفس الحنين لروحانية صلاة التراويح والتهجد التي تفتحت جوارحي عليها منذ وعيتُ الحياة، بسبب الحرص على سلامة المواطنين وسكان البلاد بالاستمرار في اتخاذ الإجراءات الاحترازية لريثما يرفع الله البلاء، فإنني أعيش إيقاعاً يومياً سريعاً صاخباً للحياة بالرياض لا يكاد يشبه إيقاع حياتي الرمضانية البطيء الهادئ بنيويورك، مع أنه قد يكون المتوقع العكس حسب فهمنا السيسيولوجي المعتاد للمجتمعات والفروق المعيشية بين مجتمعات الشمال ومجتمعات الجنوب.
* * * *
(1)
وبما أنني مضطرة لوضع خاتمة لهذا المقال، وقد بدأ يضيق خناق الوقت حول أعصابي وأصابعي بأزوف وقت تسليمه للجريدة، فإنني لا أجد أنسب من وضع قائمة بالمواضيع التي كنتُ أنوي الكتابة عنها لولا «ضيق الوقت» في رمضان مما كنتُ أريد تقديم عينة بها على الإيقاع اليومي الذي أعيش به رمضان الرياض هذه السنة، على أن أتناول بعضاً منها في مقال الأسبوع القادم بمشيئة الله. وهذه القائمة على التوالي:
رمضان وأبطالنا على الحد الجنوبي.
رمضان وحديث ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
رمضان وتجربة اللقاء الشعري بجامعة هارفرد.
رمضان ولقاء الجامعة المستنصيرية حول كتاب سيرة الأمهات.
رمضان وملتقى حكايا في سيرة الأمهات (أيضاً).
رمضان ولمحة من حياتنا الاجتماعية في برنامج المسار.