منيرة عبدالله الرشيد
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
لم يمض على وفاة والدي فضيلة الشيخ العلامة عبدالله الرشيد رحمه الله سوى أشهر حتى لحقت به والدتي الغالية السيدة الفاضلة صالحة بنت أحمد الأحمري التي كان لها من اسمها حظ وافر فكانت امرأة صالحة بحق.
آه ثم آه ثم آه، ألم شديد يعتصر قلبي ودموع متوالية تنهمر بدون انقطاع فقد هز هذا الخطب الجلل كياني لاسيما وقد عانت في أيامها الأخيرة أشد معاناة من المرض العضال الذي انتشر فجأة وفتك بجسمها الضئيل النحيف أصلاً وخلف آلاماً شديدة، وكأن مشهدها وهي تعاني أخفى وطغى على كل ذكرياتي الجميلة معها، رغم صبرها وإحتسابها، فكنا نسمع أنينها ومعاناتها، فإذا دخلنا عليها جلست وابتسمت وحمدت الله محاولة ألا تؤلمنا بألمها، مع أننا كنا نتألم لمحاولتها إخفاء مرضها، حيث نقرأ شدة ما تعانيه في تعابير وجهها وفي عيونها، بل كانت لصبرها واحتسابها ترد على من يسأل عنها حتى آخر يوم من حياتها بشكر الله وأنها بخير وعافية وتدعو للمتصل وتطلب منه ألا يكلف نفسه عناء الزيارة، رغم أنها كانت تراوح بين الغيبوبة والإفاقة وحين تفيق تتبسم ابتسامة جميلة في وجه من لديها وتذكر الله وتتشهد وتتحدث قليلاً لتعود للغيبوبة، ولا أنسى حين مازحت دكتورتها ألا تعطيها الدواء وهو لا يعدو كونه مسكناً حتى تلحق بزوجها والدي رحمه الله، فسبحان من أسبغ عليها نعمة الصبر على البلاء,
كنت أسمع عن الألم الذي يعتري الإنسان لدى فقد الأم، وحين عانيت ذلك علمت أن من سمع ليس كمن أحس وعانى فبفقدها رحمها الله فقدت معاني للسعادة كثيرة، معان جميلة رحلت معها فكانت الطيبة والحنان والحب والإحساس بالأمان فهي الملجأ الآمن والحضن الدافئ، رحيلك يا والدتي أعادني لعمري الحقيقي بعد أن كنت أحس بالطفولة وأنا أتدلل بين يديك، نجتمع الآن في منزلك والألم يعتصر قلوبنا ويهزني الألم برؤية بعض إخوتي يستلقون على سريرك الذي طالما حوى جسدك الطاهر ودموعهم تبلله، وأدخل غرفتك فأراك في كل ركن منها فيزيدني ألما أن صاحبتها غادرتها إلى الأبد، لن تعود لاجتماعاتنا مع اخوتي ذلك الإحساس الجميل الذي نشعر به رغم أني أعدك وبشدة على أن تستمر بنفس المواعيد التي تحرصين عليها وبنفس الزخم.
لن تغيب عني ابتسامتك وترحيبك بنا وحديثك عما يخصنا ومناقشتك بكل حكمة همومنا دون أن يخطر لك ببال مناقشة شأن من شؤونك فهمك فقط همومنا.
ولن أنسى ما حييت دعمك لي في كل مرحلة من مراحل حياتي وحنانك ورأفتك وصوتك الجميل والاسم الذي تدلعيني فيه، أفتقد لمساتك همساتك قبلاتك حضنك الحنون ودعاءك المستمر لنا بالتوفيق، فكل دعواتك لنا ولا تعطي نفسك من الدعاء إلا النزر اليسير. ويعزيني في ذلك أنك بجوار رب رحيم سيجازيك بإذنه وحوله وقوته بالعفو والمغفرة وجنة عرضها كعرض السموات والأرض,
الفقد كبير والخطب جلل فأعزي أولاً صاحبتها في المسيرة زوجة والدي خالتي السيدة الفاضلة أم علي جزاها الله خيراً، والعزاء موصول لإخوتي جميعاً وأخص بالذكر أخي مطلق الذي تعجز الكلمات عن وصف ما قدمه فقد أحاطها بعنايته طوال مرضها ففرغ نفسه لخدمتها ولم يغادرها لحظة، وكذلك بقية إخوتي الذين بذلوا جهدهم فاعتنوا بها أيما عناية ولم يفارقوها لحظة ليرسموا أروع الصور في بر الوالدين، فكانت عنايتهم بها مضرباً للمثل وقدوة يقتدى بها، فجزاهم الله خير الجزاء.
وأقول لإخوتي رحلت الغالية وتلك مشيئة الله على عباده النافذة منذ أمد الدهر ولا راد لمشيئته وقضائه، فلنجعل من حياتها رحمها الله وما شهدناه من فضائلها نبراساً لنا نستضيء به ومن أخلاقها وحسن تعاملها الذي شهد به كل من عرفها قدوة نسير عليها ثم لنحول دموعنا وألمنا إلى بر بها، فلا تقطعوا الدعاء لها والصدقة عنها فما أحوجها الآن إلى هذا، قال عليه السلام (إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ).