د.جيرار ديب
جنحت ناقلة الحاويات الضخمة «إيفين غيفين» في قناة السويس مساء الثلاثاء 23-3-2021، بعد تعرضها لعاصفة رملية، ما أدى إلى عرقلة حركة الملاحة في أحد أكثر الممرات المائية ازدحامًا في العالم. وانحرفت السفينة البالغ طولها 400 متر وحمولتها الإجمالية 224 ألف طن عن مسارها وسط هبوب رياح رملية قوية ضربت مصر وجزءًا من الشرق الأوسط. وعلقت السفينة البالغ عرضها 59 مترًا وارتفاعها 60 مترًا والتي ترفع علم بنما لكن تديرها شركة تايوانية في القناة، ما أدى إلى توقّف الملاحة بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر في كلا الاتجاهين.
شعر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بخطورة الأزمة، فالموضوع لا يتوقف عند تعطيل حركة الملاحة الدولية في قناة السويس. فهذه القناة جلبت لمصر عدوانًا ثلاثيًا في عام 1956، نتيجة قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، تأميمها وجعلها شركة مصرية. فبين عدوان 1956، وتعطيل الملاحة عام 2021، العامل المشترك هو قناة السويس. فهل ستستطيع الإرادة المصرية كبح جنوح تركيا وإيران وإسرائيل من شقّ قنواتهم البديلة في الملاحة التجارية والبحرية على حساب قناة السويس؟ أم إنّ التنافس الدولي الأمريكي- الروسي- الصيني على القطب الشمالي، سيكون المنتصر الوحيد لتغيير الملاحة الدولية رأسًا على عقب؟
هذه الحادثة جعلت مصر تستنفر جهودها وطاقاتها لإعادة فتح القناة وعودة العمل فيها. فالدعوات التي أطلقت لفتح قنوات أخرى بديلة جعلت مصر أمام تحدٍّ رئيسيٍ، كما كانت في وقت عدوان 1956، بفارق بسيط أنّ الاتحاد السوفياتي يومها اتخذ قرارًا حاسمًا بضرب العواصم الثلاث المشاركة في العدوان بقنابل نووية إذا لم توقف عدوانها.
الأمر ليس بهذه البساطة عند السيسي فهو الذي رفض ما قبل به الرئيس عبد الناصر من مساعدات تقنية للتسريع في عملية الحفر حول الناقلة. لقد أعرب الرئيس السيسي بوضوح خلال زيارة لقناة السويس بعد إعادة الملاحة فيها، عن إصرار مصر على عدم التفريط بأهمية القناة للملاحة الدولية «لم نرد حصول حادثة مماثلة في السويس، لكن تمّ التعامل معها بفعالية وكفاءة»، مضيفًا إنه لم يكن يتمنى وقوع حادث مثل جنوح السفينة، لكن ما حصل أعاد التأكيد على أهمية قناة السويس.
رسالة السيسي تحمل أكثر من تصويب، الأول يتعلق بقدرة مصر على مجابهة أزماتها بفعالية وتقنية عالية، إذ لم تستجب لدعوات الدول لمساعدتها على حلّ أزمتها. والرسالة الثانية للرئيس السيسي واضحة وحازمة، أن لا أهمية تعلو على دور قناة السويس في الملاحة البحرية. فنوايا الدول التي طالبت بمساعدة مصر باتت علنية، وهدفت إلى وضع مصر والعالم أمام واقع الموافقة والدعم على مشاريعها القديمة الحديثة في فتح قنواتها الملاحية.
تركيا المنافسة الأولى لمصر على لعب دور، دخلت المنافسة بعدما وافقت على خطط لتطوير قناة ضخمة متاخمة لمدينة اسطنبول، وفقًا لما أكده وزير البيئة التركي، مراد كوروم، الأمر الذي أثار انتقادات عدة، في الداخل والخارج، حول تكلفتها وتأثيرها على البيئة. ويُعتبر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من أكبر الداعمين لحفر القناة التي يبلغ طولها 45 كليومترًا. واللافت أنّ افتتاح هذه القناة سيمنع وقوع حوادث مشابهة لتلك التي شهدتها قناة السويس، دون أن يظهر نواياه بالتضييق على مصر عبر قناتها.
في ضوء الصراع الضمني القائم بين اللاعبين المصري والإيراني، وعلى واقع الاتفاق الصيني - الإيراني، وتوقف حركة الملاحة البحرية في قناة السويس، اقترح سفير إيران لدى موسكو كاظم جلالي ضرورة إكمال البنى التحتية وتفعيل ممر «شمال - جنوب» كبديل عن ممر قناة السويس. بالطبع، لا يمكن وضع اقتراح السفير في باب الحرص على الملاحة البحرية، ولا لأنه يُعدّ خيارًا أفضل كبديل عن قناة السويس في مجال الترانزيت، بل يقع ضمن صراع المحاور، والاصطفافات الدولية بين الشرق والغرب، وموقع كلّ من مصر وإيران المتناقض في هذا الصراع.
إقفال القناة إن كان عرضيًا أو مدبرًا، فإنه يشي باستغلاله لإحياء مخططات أمريكية -إسرائيلية قديمة متجددة، هي شق قناة بن غوريون، لكن وضعها على السكة لمصلحة ميناء حيفا، عبر صحراء النقب في فلسطين المحتلة، لربط البحر المتوسط بخليج العقبة، ويفتح المنافذ على البحر الأحمر والمحيط الهندي معًا.
بغض النظر عن أهمية القنوات التي تنوي الدول افتتاحها بعد أزمة قناة السويس، والدفاع المستميت من الجانب المصري لموقع وأهمية هذه القناة في الملاحة الدولية، إلا أنّ عام 2020 شهد اهتمامًا كبيرًا بالقطب الشمالي من موسكو من الاستثمارات والبصمة العسكرية واستراتيجيتها السياسية الأخرى. ففي الآونة الأخيرة أقرّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «استراتيجية تطوير منطقة القطب الشمالي الروسية، وضمان الأمن القومي حتى عام 2035».
الأمن القومي لا يتوقف على روسيا، بل المدّ الصيني ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية، جعلت من القطب الشمالي، مكانًا للصراع على الممرات الدولية. إن ديناميات القوة بين الدول الثلاث الكبرى: أميركا وروسيا والصين، ستملي قواعد السلام والاستقرار أو الصراع والحرب في منطقة القطب الشمالي.
أخيرًا، إلى حين إرساء أسس السلام أو الحرب في القطب الشمالي، ستبقى قناة السويس مركز التجارة العالمية، ومحور حركة الملاحة الدولية. إلاّ أنّ التنافس الدولي على افتتاح قنوات سيشهد تأزمًا وتوترًا، قد يسرّع الحرب بين الدول المتنافسة، ويجرّ معه الحرب على القطب الشمالي. فحرب القنوات لا تقلّ أهمية عن حرب الموارد الطبيعية، لأنّها تبقى الشرايين الرئيسية لحركات الملاحة والتجارة الدولية. ألم يلخّص البحّار الإنكليزي والتر رالي، فكر المدرسة الجيوبوليتيكية الألمانية بالقول: «إنّ من يسيطر على البحر يسيطر على التجارة العالمية ويملك الثروة، ومن يملك الثروة يملك العالم كلّه»؟!