خالد محمد الدوس
قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (سورة الرحمن: 26 - 27)..
بقلوب مفعمة بالحزن والأسى انتقلت إلى رحمة الله تعالى يوم الجمعة الماضية المرأة الصالحة وأم الحنان والإحسان هياء بنت علي الجهّيم (أم فهد اليوسف) بعد معاناتها المرضية تغمدها الله بواسع رحمته.. والحقيقة أن القلم يعجز عن التعبير, واللسان عن الكلام، وأن القلب ليحزن والعين تدمع ولا نقول إلا مايرضي الله -عز وجل- الحمد الله على قضائه وقدره.
من سنن الله -عز وجل- أن هذه الحياة لا تدوم ولا تصفو لأحد مهما كان، فلا بد من الرحيل ومغادرة هذه الدنيا الفانية لقوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (سورة آل عمران: 57)، منهم من يرحل ويرحل معه ذكره, ومنهم من يرحل جسداً وتبقى سيرتهم النيرة حاضرة في قلوب محبيه بنقاء سريرتهم وحُسن أخلاقهم وأعمالهم الصالحة.. ووالدتنا (أم فهد) رحلت جسداً وبقت سيرتها محفوظة في القلوب وراسخة في الوجدان. ولا غرابة من ذلك فسيرة (فقيدتنا الغالية) تمثل جسراً كبيراً في فهم طبيعة المرأة السعودية في (الماضي الجميل) نساء عابدات.. صالحات.. تقيات.. عفيفات.. يخفن الله في السر والعلن.. وفي جوانب حياة (أم فهد) غفر الله لها تلك الروح الكبيرة والقلب المنيب, وجمال التقوى والصلاح التي كانت تتمتع بها - رحمها الله - مع حزمها وتدينها، وهي روح الدعابة وزرع الابتسامة لمن حولها وتضفي على زوارها ومحبيها شيئا من الفرح والسرور التي تدخل القلب بعفوية ونقاء السريرة وجمال تلك الدعابة والطُرف عن حياة الأوليين التي ترويها لنا، وتحديداً عن حياة أمي الراحلة نورة المونيع -رحمها الله - وعن نساء زمان وبساطة وعفوية حياتهم الاجتماعية, ولذلك كان حتى الصغار والأحفاد يفرحون عندما يلتفون حول (جدتهم), يشبعون عواطفهم ويعيشون أجواء فرائحية قبل أن يغلق هذا (الباب) برحيلها بعد حياة امتدت لأكثر من (75 سنة)كانت عامرة بالطاعات والعبادات.
نشأة فقيدتنا الغالية (أم فهد) يتيمة بعد وفاة والدها الشيخ علي بن جهّيم -رحمه الله- قبل سبعة عقود تقريبا، وهي أقل من (9 أعوام) غير أن والدتها (شقراء بنت حمد الرحيمان) -رحمها الله- ربتها التربية الدينية الحميدة وأحسنت تنشئتها التنشئة الاجتماعية السلمية التي انعكست على قيمها الإيمانية الصادقة ومنهج حياتها التربوي والديني القويم.. فكانت -رحمها الله- مدرسة من الإحسان وحُب الخير والعطف والحنان.. بقلبها الكبير الذي احتوى الجميع من الأقارب والأحباب, وحتى الجيران الذين كانت تحرص على التواصل معهم وتؤّلف بينهم, وتفقد أحوال المحتاجين منهم.
كنت ذا حظ كبير أن عشت بعض مراحل (طفولتي) في بيت زوجها الراحل العم الشيخ عبد الله بن يوسف -رحمه الله- ووالدته السلفية العمة موضي بنت ناصر الدرح - رحمها الله - بعد وفاة والدتي نورة الموينع رحمها الله وأنا في شهري السادس..!! فكانت أم فهد (أمّـاً) لي بإحسانها وحّبها للطفل (محّدثكم) الذي ماتت أمُه وهو في مهده...!! ليخالجني شعوراً وجدانياً لا يوصف بعد أن أخذت من حنانها وطيبتها المتناهية لأني قضيت جزءاً من طفولتي في بيت (عمتي) وابنيها الشيخ عبد الله ويوسف اليوسف - رحمهما الله - وكان والدي الشيخ محمد بن دوس - رحمه الله - ذا تواصل دائم مع بيت اليوسف, وأتذكر عندما أزوها قبل مرضها كانت تسأل عن أحوالنا ولا أنسى كلماتها التربوية وحثها على الطاعات, وكما يروي ابنها ( فهد اليوسف) أنها كانت سبّاقه في البذل والإنفاق والحرص على الصدقة في الخفاء, والتواصل مع الجيران.. تحب الجميع صغاراً وكباراً تشارك الأمهات همومهن وأحزانهن وتتفقد أحوال المحتاجين منهن فكانت -رحمها الله- الأم الحنون لأفراد العائلة.
نعم كانت (الراحلة) كريمة.. سخية.. متواضعة أحبها كل من عرفها عن قرب، سواء داخل نسيجنا العائلي أو خارج محيطنا القرابي غير أن رحيلها ترك في القلب لوعة، وفي النفس حسرة، وفي نبرات الصوت غصة.. وعزاؤنا في لوعة الفراق وألم الرحيل أن (فقيدتنا الغالية) كانت امرأة صالحة (صبرت) على مرضها طويلاً ومع شدة السقم والمرض والابتلاء كانت مدرسة من الصبر والاحتساب والإيمان لقضاء الله وقدره؛ لم تفارقها الابتسامة عندما يزورها الأبناء والأقارب وكل من أحب هذه المرأة الصالحة.. ولأن الإيمان كما يقول الإمام (ابن القيم) - رحمه الله - نصفان.. نصف شكر ونصف صبر، فقد كانت كثيرة الشكر والحمد في كل حال.. ومتمسكة بحبل الصبر المتين بالذات مع بداية دخول المرض جسدها الطاهر قبل ما يزيد على خمسة أعوام.. وبعد أن تمكن المرض منها ودخولها للغيبوبة في أيامها الأخيرة.. كانت ومن نعمة الله وفضله عندما تفيق للحظات تذكر فيها الله وتستغفر وتكثر من الحمد، وقلبها الكبير التقي..النقي كان معلقاً بالصلاة..
أسال العلي القدير أن يجعل ما أصابها تكفيراً للخطايا، وتمحيصاً للذنوب، ورفعه لدرجاتها..اللهم إن والدتنا (هياء) في جوارك فأكرمها بكرمك, وارحمها برحمتك.. فأنت الكريم ..الرحمن.. المنان.. الرحيم..وأخيراً نقول: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك.. يا أم الحنان والإحسان, لمحزونون.. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا العظيم.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.