عبده الأسمري
عندما يُذكر اسمه يتجلى الجمع على المفرد في أفق الاقتدار، وحينما تستذكر سيرته يطغى الجميع عن الفرد من عمق الاعتبار.. وكأننا أمام «منظومة» بشرية و«هيكلة» شخصية في قامة رجل واحد..
تبكيه «المدامع» وتزكيه «المجاميع» وتنعاه «المقامات» وتستذكره «المنصات» في ذكريات «الإفتاء» التي تلبست وشاح «الاستدامة» ومذكرات «العطاء» التي توسمت بتاج «الاستقامة»..
نثر «عبير» العلم وأبقى «تقدير» التعلم وسكب «مداد» القلم وسبك «سداد المغنم» ليملأ واحات «الفكر» بأنفاس «الأُثر» ويبهج ساحات «الذكر» بنفائس التأثير..
هو اختصار لانتصار «معارف» شرعية جناها طوال عقود من البحث والتحليل والنقاش والتأليف وأضاءها بنور «البصيرة» التي كانت جزءاً من شخصيته «المنفردة» وأكملها بأجور «السريرة» التي ظلت جانباً من مسيرته «الفريدة»..
إنه العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- أحد أبرز العلماء والفقهاء واحد رموز العطاء الشرعي والسخاء العلمي في والوطن والعالمين العربي والإسلامي.
بوجه قصيمي وقور تميزه علامات «الورع» وسمات «التواضع» وتسكنه ملامح «الطمأنينة» ومطامح «السكينة» تعلوه ومضات «الزهد» وتملؤه إمضاءات «الجد» أكمله المشيب «زهاءً» وأتمه الطيب «بهاءً» مع تقاسيم مألوفة يشع منها «ضياء» الإيمان وينبع فيها «إمضاء» الإحسان وشخصية تسكنها «الثقافة الدينية» وتحفها «اللباقة الإنسانية» وكاريزما، مسجوعة بالشفع ومشفوعة بالنفع، وأناقة تعتمر «البساطة» تتعامد على شخصية تقية نقية ارتدت جلباباً فضفاضاً من اليقين مطرزًا بأوسمة «الصالحات» وموسمًا بتيجان «الطاعات»، وصوت ذو «لكنة» نجدية و»سكنة» جدية» تتوارد منه فصاحة اللسان وحصافة البيان، وقول فصل عنوانه «التقوى»، ولفظ جزل ديدنه «الحسنى»، ولغة قويمة مقوماتها «الدلائل الشرعية» ومقاماتها «البراهين الدينية»، وخطاب توجيه نابع من «مقام» حكيم وجواب تبليغ صادر من «مهام» خبير.. قضى ابن عثيمين من عمره عقودًا وهو يدرس «طلبة العلم» ويهزم «غلبة التشدد» ويخرّج «شيوخ الاعتدال» ويكتب «صحائف المحاسن» ويؤلف «مجلدات المواعظ» وينظم «فتاوي الوسطية» ويؤسس «مناهج الدعوة» في مهمات متنوعة وضع الأسس وعززت السبل وأسست الأركان في إرث ديني قويم كان ولا يزال وسيظل «خزائن» من المنافع و»ينابيع» من المعارف و»مصادر» من الفوائد..
في ليلة رمضانية احتفلت أسرة ابن عثيمين بولادته عام 1347 وسط منزل طيني متواضع.. وتفتحت عينا «الشيخ» على أب كريم أفنى عمره في التجارة ليربي أبناءه وأم سخرت حنانها لرعايته وإخوته.
ركض ابن عثيمين صغيراً بين جنبات المنازل الطينية وتعتقت روحه بروائح «المحاصيل» في حصاد البسطاء، وتشربت ذاته لوائح «القيم» في نصائح الفضلاء منصتاً لصوت «الحق» في مسجد قريته منجذباً لصدى «الرزق» في سوق عشيرته، مراقباً جحافل «المتعلمين» في الكتاتيب مرتقبًا قوافل «العقيلات» بين الطرقات، وانخطف باكرًا إلى «بشائر» التعلم على يد جده لأمه عبدالرحمن الدامغ الذي علمه الكتابة والحساب والتحق بعدها بحلقات تحفيظ القرآن الكريم مبكرًا وحفظه كاملاً ببديهة عالية، ثم تعلم على يد عبدالرحمن السعدي التفسير والحديث والتوحيد، ودرَّسه عبد الرزاق عفيفي النحو والبلاغة وعبدالرحمن بن عونان علم الفرائض، وفي عام 1372 فُتح المعهد العلمي في الرياض والتحق به وتعلم على أيدي جهابذة من العلماء، ثم قرأ على يد العلامة عبدالعزيز بن باز صحيح البخاري ورسائل ابن تيمية وغيرها وتخرج من المعهد وانتسب للجامعة ونال البكالوريوس من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
تعلم وتتلمذ على أيدي عدد من الشيوخ ونهل من معين «السلف الصالح» وانتهل من يقين «الشرع القويم» وسار على خطى جهابذة «المعارف» ومضى على درب فطاحلة «المشارف» حيث حمل بعدهم «لواء» الاتزان وأبقى لهم «سواء» العرفان..
قام بالتدريس في الجامع الكبير بعنيزة عام 1370، وفي عام 1376 بعد وفاة شيخه «السعدي» عمل إمامًا وخطيباً بالجامع ذاته وظل يلقي دروسه اليومية بالجامع ما يقارب نصف قرن، وعمل معلماً في المعهد العلمي بعنيزة عام 1374 وظل فيه حتى عام 1398 حيث توجه للتدريس في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم حتى توفي، وألَّف بعض المناهج الدراسية بالمعاهد العلمية وجامعة الأمام ودرَّس في المسجدين الحرام والنبوي في المواسم والعطل. وعمل عضوًا في هيئة كبار العلماء منذ عام 1407 حتى وفاته. عقد مئات اللقاءات في مسجده ومنزله وفي مواقع عدة وشارك في محاضرات عدة وعدد من اللجان العلمية.. فاز عام 1414 بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام.. ألَّف أكثر من تسعين كتاباً ورسالة، وسجل آلاف الساعات من المحاضرات والدروس، وتخرج على يديه المئات من طلاب العلم الذي نال معظمهم مواقع علمية وعملية مختلفة وخدموا الإسلام والمسلمين. في عام 1422 تم إنشاء مؤسسته الخيرية التي تعنى بالاهتمام بتراثه الذي خلفه وتوفير إنتاجه وتسهيل وصوله إلى كل الأنحاء.
توفي الشيخ محمد بن عثيمين يوم 15 شوال 1421 عن عمر ناهز 74 عاماً بعد معاناته من الالتهاب الرئوي في أحد مستشفيات جدة وووري جثمانه ثرى مكة الطاهر.
طغى خبر وفاته بعناوين عريضة ارتفعت على «جبين» الأمة الإسلامية وشيعته المنابر وبكته الأعين وفقدته القلوب وودعته الأنفس، وكان العزاء في كل الأرجاء وتناقلت المنصات في كل الاتجاهات الحدث بغم والحديث بألم عن «عالم دين» كانت سيرته في محفل «الاستثناء»ومسيرته في متن «الثناء».
لا ألقاب توفي ولا تتويج يستوفي.. حق شيخ جليل ونبيل وأصيل تجاوز الوفاء بمراحل ليبقى القادمون على دربه والماكثون على نهجه المتيمون بمنهجه الكاتبون عن أثره الراصدن لمآثره.. حائرون حول الاستيفاء لقيمته وقامته وبقي العزاء في سخاء وعطاء وأداء ظل «سنداً» للإجماع و«عضداً» للاجتهاد ومرجعاً «للاعتماد» و»منبعاً» للسداد في أمور الاختلاف وفي مفاهيم «الائتلاف» في متون «الشرع» وشؤون «الفقه» ومزون «الفتوى» ومضامين «التوحيد» وميادين «الدعوة».