عمر إبراهيم الرشيد
هذه صفحة الرأي ويفترض أن يكون المقال فيها رأياً في قضية أو موضوع ما، ولكن يحدث ويجوز عرفاً أن يحيد الكاتب عن هذه القاعدة طرداً للسأم وتجنباً للتكرار، فما بالك ونحن في هذا الموسم الجليل إذ يجدر بنا تناول ما لطف من المعارف ننعش بها ذاكرتنا المعرفية والثقافية. لفت انتباهي عبارة سمعتها في احدى الإعلانات التجارية تقول (هذا زمان الصمت) ويحدث أن توحي كلمة أو عبارة لسامعها وتذكره بفكرة أو قصة أو موقف. فهل هذا زمان الصمت؟، بالنظر إلى ما أصبح عليه إيقاع حياتنا وأجواؤنا وفضاءات بيوتنا المزدحمة بتلك الموجات الكهرومغناطيسية التي تحمل ملايين المشاهد والأصوات والرسائل، عبر الوسائط التي تنوء بها تلك الأجهزة اللوحية، يبدو أنه زمان الصمت حقاً. الصمت انشغالاً بتلك الأجهزة والرؤوس مطأطئة تتابع ما فيها، هذا من جهة، وصمت الحكمة والعقل المنشود مع ثقل الفضاء على اتساعه بالأخبار والصور والمشاهد، واعتلاء الملايين للمنصات والمنابر وكل يحاضر وينشر ما بدا له وبطريقته.
يقول الإمام علي كرم الله وجهه (إذا تم العقل نقص الكلام)، وبالفعل، فإن الصفة المشتركة للعلماء والمخترعين والنابغين في مختلف الميادين هي الصمت وقلة الكلام!، ولعل السبب أن عقولهم في حال اشتغال دائم، والأسئلة في حال تتابع عما يشغل عقولهم ويبحثون له عن إجابة. ويقول أحد السلف (ندمت على الكلام مرات ولم أندم على السكوت مرة)، فالكلمة كالسهم إذا خرجت من فمك فلن تعود إليه، ورب كلمة قالت لصاحبها دعني كما تقول الحكمة. وإنك حين تتأمل حال كثير من المجالس تستغرب نهج الكثيرين في الحديث والحوار، فسمة الإصغاء قيمة نادرة، وهي إحدى عادات القادة السبع بالمناسبة، وهي من أبرز سمات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولقد قيل إن مما يدل على أهمية الإصغاء أن للإنسان أذنين ولساناً واحداً، فاصغ جيداً حتى يكون حديثك مؤثراً لكن أين من يتنبه لهذه القيمة إلا العقلاء وهم قلة. ومن العجيب لدى البعض حب مخالفة المتحدث بغض النظر عن خطأ وصواب ما يقوله، ويرى هذا النوع من الناس أن هذه العادة تجلب لهم الانتباه، وهي كذلك بالفعل لكنهم يعرفون بعد ذلك بهذه السمة السلبية ويصبحون علة تلك المجالس.
والصمت لغة، له مدلوله وذلك بحسب الموقف، فهنيئاً لمن صمت حين يسبه جاهل أو أحمق، لأن الرد عليه في الحقيقة مجاراة له مع منحه أهمية لا يستحقها، عدا عن أن بعض المحيطين سوف يساوي بين ذاك الأحمق وبين من أساء إليه إذا احتدمت المواجهة، وفي ذلك قال الشافعي رحمه الله في هذا المعنى:
يخاطبني السفيه بكل قبح
فأرفض أن أكون له مجيباً
يزيد حماقة فأزيد حلما
كعود زاده الاحراق طيبا
وإن تكن النظرة القاصرة في وقتنا الحالي من البعض بكل أسف إلى السكوت في مثل هذه المواقف على أنه ضعف، فهو للعقلاء والعارفين حكمة وتعقل ورزانة. ولابد لمن فيه شيء من العقل إذا ذهبت عنه سورة الغضب أن يعود فيعتذر ممن أساء إليه بسبب صمت ذلك العاقل الذي أحرجه أمام الناس، أما الأحمق والجاهل فعقليته الضحلة توهمه بانتصاره الزائل المزيف. وبالطبع ليس الصمت على إطلاقه حكمة وتعقلاً إذا تطلب الموقف الكلام، والسعيد من قال وأوجز وانتقى كلماته بما يلائم المقام والسامع، ففي القول المأثور (خاطبوا الناس على قدر عقولهم)، وإنما تعرف البلاغة بالكلام الموجز المبين، والعرب تعد الإسهاب والحشو مضاداً للبلاغة ودليل نقص المعرفة، ومما قال عمر رضي الله عنه (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلت هيبته) وقال (كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً). فكم للصمت من جمال وغموض وهيبة، في زمان الضجيج هذا، إلى اللقاء.