د.صالح بن عطية الحارثي
حديث ولي العهد -وفقه الله- مع الإعلامي عبدالله المديفر مليء بالمعاني والمضامين الجديرة بالتناول من جوانب عديدة وزوايا مختلفة، وبناءً عليه فإنه بدا لي تناول بعض الموضوعات اللصيقة بتخصصي واهتمامي العلمي والمهني، في ضوء النصوص القرآنية والنبوية ثم مواد النظام؛ رغبةً في الازدياد من العلم، قال تعالى: {وقل ربي زدني علما}. قال الفخر الرازي رحمه الله: «وفيه أدل دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته وفرط محبة الله تعالى إياه، حيث أمر نبيه بالازدياد منه خاصة دون غيره»، وسأجعل مقالي في نقاط رئيسة وعناوين.
الكتاب والسنة هما المنهج
وقد أكد ولي العهد -وفقه الله- أن دستور المملكة هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد نصت المادة السابعة من النظام الأساسي للحكم على أنه: «يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله. وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة».
ولا يخفى أن الفهم المعتمد والمقبول للوحيين هو فهم السلف الصالح وهذا القيد عليه أدلة من كتاب الله -عز وجل- ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-. فالفيصل الوحي، ثم فهم السلف لهذا الوحي؛ وذلك لأن مذهب السلف هو الأسلم والأعلم والأحكم.
لا عقوبة إلا بنص
قال الفقهاء: «لا يجوز إثبات الحدود من طريق المقاييس، وإنما طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق» أي: أن العقوبة لا تثبت إلا بالنص عليها لا بالاجتهاد، وهذا مطابق لقول القانونيين: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بالنص».
وهو منصوص المادة الثامنة والثلاثين من النظام الأساسي للحكم: «العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على نص شرعي، أو نص نظامي، ولا عقاب إلا على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص النظامي».
القصد من تشريع العقوبات
قال ابن عاشور: مقصد الشريعة من تشريع الحدود والقصاص والتعزير ثلاثة أمور: تأديب الجاني، وإرضاء المجني عليه، وزجر المقتدي بالجناة.
وقال الجصاص: عقوبات الدنيا هي على ما يعلم الله من المصالح فيها، وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه، فأوجب رجم الزاني المحصن، ولم يزل عنه الرجم بالتوبة، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الغامدية بعد رجمها: «لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له».
الشريعة تتشوف لدرء الحدود عن الناس قدر المستطاع
وهذا متضحٌ وجليٌّ في حديث أصل أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، في قصة ماعز بن مالك الأسلمي -رضي الله عنه- والمرأة التي أقرت بالزنا، ولولا طوله لأوردته بنصه، وفيه أن الرسول رد ماعزًا -رضي الله عنه- ثلاث مرات، وفي الرابعة أقام عليه الحد، وإمهاله المرأة التي أقرت بالزنا حتى وضعت حملها وأرضعته وفطمته حتى جاءت به وفي يده كسرة خبز. ومن الدليل على تشوف الشريعة لدرء الحدود ما ورد عن عائشة -رضي الله عنها- كما في الخراج لأبي يوسف رحمه الله: ادرأوا الحدود عن المسلمين بالشبهات ما استطعتم؛ فإذا وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة.
من مظاهر رحمة الإسلام العظيم في هذا الباب
قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لهزَّال بن يزيد الأسلمي -رضي الله عنه- وهزال هو الذي كان أمر ماعزاً أن يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيخبره-: «لو سترته بثوبك كان خيرًا لك».
وعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام بعد أن رجم الأسلمي فقال: «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها فمن ألمَّ فليستتر بستر الله وليتب إلى الله فإنه من يبدِ لنا صفحته نُقِمْ عليه كتاب الله عز وجل». قال ابن عبدالبر رحمه الله: «وفي هذا الحديث من الفقه أن ستر المسلم على نفسه ما وقع فيه من الكبائر الموجبة للحدود، والتوبة منها والندم عليها والإقلاع عنها أولى به من الإقرار بذلك على نفسه. ألا ترى أنَّ أبا بكر أشار بذلك على الرجل الذي اعترف عنده بالزنا وكذلك فعل عمر -رضي الله عنهما. وهو ماعز الأسلمي لا خلاف في ذلك بين أهل العلم وذلك مشهور في الآثار. وكذلك إعراض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه حين أقر على نفسه بالزنا حتى أكثر عليه كان -والله أعلم- رجاء ألا يتمادى في الإقرار وأن ينتبهَ ويرعويَ ثم ينصرف فيعقد التوبة مما وقع فيه».
فما أروع هذه المعاني وأسماها، وصدق الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. وما أجمل ما قاله ابن قدامة في هذا الباب: «ولم يرد الأمر بالإقرار، ولا الحث عليه في كتاب ولا سنة، ولا يصح له قياس، إنما ورد الشرع بالستر، والاستتار، والتعريض للمقر بالرجوع عن الإقرار».