جابر بن محمد مدخلي
أحداث ألمعية واقعة عقبة امصّماء حادثة نكالات الغزاة الأتراك على أهل رُجال
أمام شواهد الزمان يأتي المكان متحدثًا بصمت، وواقفًا أمام حياة جديدة وعصر مختلف لقبائل متوارثة لذات البيئة مع ما زاد فوق أرضهم من أحياء، ودُفن داخلها من أموات. المكان هو الحجر الذي قاوم التعرية، والجبل الذي التصق بجبلٍ آخر ليجد إلى جواره قدمًا مغروسةً في الأرض تزيد من ثباته، وبقائه لقرون قادمة. وفي رجال ألمع تقرأ كل ما قرأته هنا.. ولكنك ستقرأه واقعًا بدلالاته ومدلولاته كما لو أنك تعيش الزمن من الوراء إلى الأمام لترى ما لم تره عيانًا، بيانًا. الجبل فيها له صوت مختلف عن جبال الدنيا كلها.
الهواء الهادئ فوق جبال ألمع الذي يحدث تصادم الصخور فيما بينها ليحركها عن مواضعها قليلاً يُشعرك كما لو أنه يستضيفك فوقه، ويعيد لك قراءة التاريخ، والأحداث التي لم يبق منها غير الصورة كإثبات على حدوثه، وهذا الجزء أسميه «بالأحداث الألمعية» ومع كثرتها إلا أنني سأعتمد على النقل والاستناد والرواية الحيّة المتوارثة كابرًا عن كابر لتغدو الكلمة المقروءة بهذا الجزء مرئية قبل أن تكون منصوصة.
وبما أنّ الحوادث العِظام متناقلة ثابتة راسخة تاريخيًا فيهمني في البدء توظيفها كشاهدٍ واقعي ذهب بالدماء، والأحياء، وخلّف ما يثبتها في أمكنتها كسبّابة تشير إلى نفسها، وإبهام تبصم اليوم على ما حدث بالأمس: فهيا معًا لنشاهد الحادثة الأولى والتي حفظها التاريخ الألمعي كما هي، وحين أتينا لنقلها وجدنا شواهدها ما تزال على قيد البقاء وهنا علينا في صحيفة الجزيرة أن نشير إلى هذه الجهود العظيمة التي بذلتها وتبذلها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في الحفاظ على التراث بل وحماية شواهد التاريخ من الاندثار، أو المحو.
الحادثة الأولى: «واقعة عقبة امصمّاء»
وقد حدثت في أول شهر رمضان من عام 1311هـ - وصل إلى حسن العسيري مندوب أمير بلاد عسير الأمير علي بن محمد بن عائض بن مرعي العسيري بمكتوب منه، يتضمن البشرى بالواقعة التي طارت بها الركبان، وعلا صوتها جميع البلدان، وكان الأمير علي بن محمد بن عائض لما أخذ أباه (العجم) فقتلوه في سنة 1288هـ ثمان وثمانين ومائتين وألف، واستولوا على مملكتهم، فرحل فسكن الطور في بلاد عسير وهو غلام فلم يزل هنالك، وقد طالبته (العجم) فلم يتعلق بحبالهم، ولا ترقى في جبالهم، ثم لم يزل يحفر الآبار، وينصب شباك المضار، ولما اشتد البلاء من (العجم)، كان مما هيج ذلك أن ابناً لإبراهيم بن عبد الوهاب* كبير رجال ألمع، طلبه متصرف عسير محمد أمين باشا، وكان عليه وعلى من تحت ولايته خمسمائة ريال، فأغلظ عليه الباشا وطلب منه ألفاً، فقال: إن القطع على كذا، فقال المتصرف: لا بد أن تسلم ألفي ريال، ثم أخذوه، وحلق لحيته، فأظهر الرضا بالألفين، وخرج إلى قومه، وكانوا أمنع رجال عسير، فأراهم حلق لحيته، وما لحقه من الضيم والعار، وهتك العرض، فشمرت القبائل، واجتمعت كبار رجال عسير، وتحالفوا على الفتك بالأتراك، وتقدموا إلى محل الشعبين، فخرجت عليهم العجم إلى خارج البلد، ومعهم المتصرف والقومندان وزهاء ثمانمائة مقاتل من الأتراك، وما زالت ترمي بمدافعها وبنادقها، ولما مالت الشمس كبر أهل عسير، وقصدوا الأتراك بالطعن من الأكف بخناجرهم، فرموهم فلم يؤثر فيهم، وقصد الشيخ المحلوقة لحيته صاحبه المتصرف فقتله، فانهزمت (العجم)، ووقع القتل فيهم إلى قريب المائة، وأخذ رجال عسير مدفعين للأتراك، وجملة من بنادقهم وقتلوا مع المتصرف قومندان الأتراك وأحمد آغا وخير الدين رئيس الخيالة وغيرهم من أعوانهم من العرب، وانحازت الأتراك لمركزهم الشعبين، ولما علم الناس بهذه الفتكة والغنيمة أوقدوا النيران على رؤوس الجبال لإعلان البشرى، فما زالت تأتي الأقوام من تلك البلدان، وقد علموا أن (للعجم) مالاً عظيماً مما جمعوه من بلاد عسير، وخافوا فرار (العجم) ليلاً بالمال، فرتبوا الطريق باثنتي عشرة مائة مقاتل ومختفين، فخرجت (العجم) ليلاً خشية أن يحال بينهم وبين أبها مركز البلاد العسيرية ومن فيه من الأتراك، قال القاضي حسين العرشي راوياً كلام حسن العسيري المذكور:
حتى إذا توسط الأتراك العقبة أخذ الكمين من العرب في أسفلها، واستقبلهم الجم الغفير من العرب أعلاها فعركوهم هنالك عرك الأديم، وأخذوا ما أجلبوا به جميعاً من الخيل والمتاع والكراع والسلاح، حتى بلغت الغنيمة من الريالات إلى خمسين حملاً مما تحمل على الجمال، وانجلت المعركة عن قتل نحو أربعمائة من (العجم)، وقتل في اليومين من رجال عسير سبعة عشر رجلاً فيهم إبراهيم بن عبد الوهاب، وانحصر من بقي من الأتراك في أبها في حصن السقا فيها فتهافتت عليهم القبائل «وعند هذه النقطة انتهت الحادثة مسجلة انتصارًا في معركة ما يزال مكانها ثابتًا وشواهدها التاريخية مستقرةً في أعالي رجال ألمع. وحتى أكون حريصًا ودقيقًا في تأكيد ما ورد أعلاه عدتُ لكتاب «أئمة اليمن» الذي ألّفه المؤرخ اليمني: محمد أحمد زبارة. ص 316 .
الحادثة الثانية: (نكالات الغزاة الأتراك على أهل رُجال)
وهذه الحادثة أرويها لكم سماعًا وراثيًا، وخطًا ورقيًا أعدت قراءته عدة مرات في رواية الأديب إبراهيم شحبي: «حدائق النفط» والتي أرّخت لهذه الحقبة الزمنية مُعتمدة على عدة مخطوطات، ووثائق، وروايات شفهية. وبما أن الحادثة الثانية مع فلول الغزاة الأتراك بالمنطقة فإننا سنراهم مرةً أخرى يتصارعون على التلال العالية التي حين يزور السائح أو الزائر لهذه البقاع سيرى جيدًا كم كان حرصهم طوال وجودهم للسيطرة عليها، ولماذا رجال ألمع تحديدًا؟ لأنها كانت بالنسبة لهم مركزًا عاليًا يرون من خلاله ويراقبون كل صغيرة وكبيرة في مفترقات الأودية والشعاب والممرات بأكملها. وبصعودي إلى تلك الشواهق تخيلت الصور الذهنية العجيبة التي دارت في عقلي لإعادة رسم حوادث كثيرة ربما لن يستطيع كتابتها أحد مهما حاول ذلك؛ لأن ثمة معارك لا تُكتب، ولا تُرسم، ولكننا نتخيلها، ونستعيدها حسب رسمنا لخططها، ومواقعها، وأحداثها، وتخيلات أدواتها وأسلحتها، وبالأخير سنصل إلى أنّ المكان والطبيعة هما الشاهدان الوحيدان اللذان يحتفظان بأسرارهما، ودمائهما، وخضرتهما مهما سعت أدوات القتال، والافتعال، والانهيار، والهزائم والانتصار إلى طمسهما. وهذه الحادثة يمكنها أن تكشف لنا أحداثًا كبيرةً وإن نقلتها هنا من مصادرها أو سعيت لنقل تخيلاتي حولها وأنا أقف بالمكان الذي صعدته لأجد مساعي الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لدينا قد بدأت بإحاطته كموقع سياحي، عندها فقط ابتهجت بأنّ التاريخ هو المكان كما هو الكتاب أيضًا. وحدثت تلكم المعارك على قمم هذه الجبال وفي مراكز هذه المحافظة حتى قِمم سروات عسير.
وقبل الدخول إلى أحداث هذه الحادثة علينا فهم أن التاريخ الذي يحفظه الناس ويتوارثونه هو تاريخ صادق أيضًا؛ لأنه يبقى ويرسخ وتحديدًا عندما يحيطه الألم، والجبروت، والنكال، ولعلنا ونحن ندخل التاريخ المكاني القائم على جبال ألمع نستعيد الأحداث وفق ما يرويه الناس ثم لاحقًا ما ترويه الكُتب والمراجع.. لنقارب فيما بين الروايتين ونأخذ ما يتطابق ونرفض ما يختلف. وهذه الأحداث التي ننقلها لكم في تطابق تام فيما رويّ لنا، وما قرأناه معًا في اتساق تام. وتقول الحادثة: «أنه وفي السادس من شهر ذي الحجة من العام 1336 وقع من الأتراك نكال: (أي غرامات مالية) على (أهل رُجال) فطلبوا الرحمة وشكوا تقاطر أحوالهم، وما قد نالهم من الأسلاف: (أي الديون) والنكالات قبل ذلك والتي بلغت (مئة ألف ريال) فحينئذ فكروا في أحوالهم وما قد نالهم من المشاق الثقال فبادروا بالانتقال، وخرجوا بالأنفس والأولاد، وما عزّ عليهم من الأموال إلى جهة ميول بلاد ألمع، وإلى جهة «شوقب» وما بقي في (رُجال) إلا ضعاف الرِّجال مساهرين لحوادث الأحوال مما يغير البال حين لم يحصل لهم تخفيف ولا تعفيف، وبقوا متحيرين في غربة وكربة ينتظرون لطف اللطيف، ويرجون من الله التخفيف، وما قدّره أمضاه فيجب على العبد يرضاه، وإن خالف مقتضاه، ثم إنه لما رأوا تغير الأحوال بادروا بالعفو عن أهل (رُجال) فيما حطّوه عليهم من النكال، وجعلت لهم ضُمَنا من عسير السراة «علكم، أو بني مغيد» يكونون ضُمنا لهم فيما يخافون ويحذرون وما عاد يلحقهم من الغزاة الأتراك جزاء ولا سلف، وإن حالهم حال «رجال ألمع» فيما دقّ وجل فلم تأمن قلوب أهل رُجال، وخافوا من الغدر والاحتيال، وبقوا في كربة وطول غربة ينتظرون لطف الله بهم، وعما قريب يحصل الفرج إن شاء الله. ثم إن (محي الدين) -القائد التركي آنذاك- زاد ظلمه وطغى وبغى حتى ملأ الأرض وصار أظلم من مشى عليها. فسلط الله عليه من لا يرحمه، فبينما هذا صايح، وهذا منبطح صاح شاوش البشارات بنزول الكرامات والآيات الباهرات، ونزل الأمر من قبل الرحيم الرحمن على والي سلطته آل عثمان السادس (محمد خان) وتلقى ذلك البرهان بالقبول، وأطرق رأسه كالهائم الولهان، وهزه الطرب، وأجمع رأي الوزراء والأمير على خروج الأتراك من جزيرة العرب من أرض عدن إلى أرض حلب».
ومثل هذا الظلم الذي لحق بأبناء المحافظة كانت محفزة لأهل رُجال لإخراجهم والثورة عليهم، وإعادة الأمور إلى طبيعتها بعدما تماسكت العشائر في وجه الغزاة الأتراك الذين ظلموهم، ونهبوا حلالهم. «وقد انتهت هذه الحادثة في الأول من جماد الأول للعام 1337 بخروج الغزاة الأتراك صاغرين، ولأمر الله طائعين، ولما تحت أيديهم من مدافع، نجنبخانة، وبنادق، وبغيل طارحين ومسلمين. وصار خروج (محي الدين) ومن في جبل عسير مع عقبة ضلع، وركوبهم البحر من الشقيق بعد أن طرحوا قواتهم وما تحت أيديهم بيد السيد: مصطفى الغربي، وخرج من في أرض اليمن إلى جهة الحديدة وركبوا البحر من هناك بعد أن طرحوا ما تحت أيديهم، وخرج من في لحج من عدن وركبوا البحر بعد أن ألقوا ما تحت أيديهم. وصارت الأرض من بلاد بني شهر إلى بلاد لحج قريب عدن» وكما أكدّ لي مؤلف هذا المصدر أنه نقل الحادثة نقلاً عن وثيقة للمؤرخ محمد حسن عبد الرحمن الحفظي، والمؤرخة بتاريخ: جمادى الآخرة- سنة 1337هـ. وما إن انتهت حادثة النكالات هذه حتى عدنا لوثائق أخرى بذات النص تحيلنا إلى ما حدث بعدها من استقرار، وحياة راغدة حيث أنه وبعد استعادة أهل رُجال والسراة مواقعهم وأرضهم وانضمامها للحُكم السعودي ووفق الوثيقة التي تقول: «ثم إنه ثَبَت أمر بن سعود في الطور وشرقا على نظره، وتحت أمره، ومن محايل إلى القنفذة، وما والاها كذلك تحت أمر بن سعود، ومن بلاد رجال ألمع وقنا والبحر».
وأمام هذا الأمن الذي ذاقته المناطق التي لفظت الغزاة الأتراك، وألغت وجودهم ودخلت في حكم الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- الذي أنهى توحيد المملكة العربية السعودية بعد عدة معارك خاضها عرف بعدها الناس قيمة الاستقرار الخالي من النكالات، والقهر، والاغتصابات، والاقتتالات والمطاحنات، وسلب الحقوق. لقد استعاد الناس أراضيهم، ومزارعهم، وراحت السماء تمطر من جديد وتُزهر الأرض وتخضر الطبيعة وتنمو الأمكنة ومن عقد إلى آخر ويتصاعد سمو الإنسان ورقيّه وتتحرك الحياة باستمرار..