محمد بن إبراهيم الحسين
برع العرب في الغوص في بحور الشعر العميقة، معتمدين على غنى المخيلة ورقة الشعور التي يتميز بها أبناء الصحراء، ومستعينين باللغة العربية الغنية بالتعابير والزاخرة بالكلمات والحافلة بالاشتقاقات، وتطرقوا في أشعارهم لشتى مناحي الحياة، وسبروا بحكمتهم أعماق المشاعر، ورسموا بمخيلتهم أروع الصور، وصاغوا ببلاغتهم أجمل الجمل، وطرزوا بنبوغهم أدق الأوصاف، ومهروا بمهارتهم أجزل القصائد وأعذب الأشعار، وتفرعت المواضيع التي تطرقوا إليها من الحكمة إلى الفخر ومن المدح إلى الهجاء، وفي كل هذه المجالات وغيرها برعوا في توظيف الكلمات وتركيب الجمل لتوضيح المعنى، كما أجادوا التعبير لسهولة الوصول إلى عقل المتلقي، فاستعملوا الوصف والتشبيه والطباق والجناس والتورية، وطرقوا شتى المجالات وطرزوا أروع الأبيات ونظموا أجزل القصائد التي خُلِّدت بعض أبياتها حتى أصبحت حكماً تردد مدى الدهر. ومع مرور الأزمنة والدهور تمايزت اللهجات في الجزيرة العربية فكانت عامية نجد وريثةً للفصحى في تلك المنطقة، وبرز عدد من الشعراء الذين نظموا القصائد بتلك اللهجة، فسُمِّي ذلك الشعر بالنبطي أو «العامي» وأطلق على هؤلاء الشعراء مسمى شعراء النبط، أو «الشعراء العاميين». وأغلب هؤلاء الشعراء نشأوا في منطقة نجد المنعزلة، وفي مجتمعات شبه أمية، وفي ظل ظروف مناخية قاسية وفقر مدقع وأمن شبه معدوم؛ إلا أن تلك الظروف لم تمنعهم من نظم أعذب الأشعار وتطريز أبدع الأوصاف وتسطير أروع الحكم والأمثال؛ فكانت أشعارهم تدويناً للوقائع التاريخية وتخليداً للمآثر الأخلاقية وتحليلاً للظروف الاجتماعية وتوثيقاً للحالة السياسية والدينية في وقتهم؛ مصداقاً للمثل القائل: (الشعر ديوان العرب).
ونظراً لأهمية الشعر لدى أهل الجزيرة العربية بكونه أداة التدوين ووعاء الحفظ ومعين الحكمة ووسيلة النصح؛ فقد برز الكثير من مشاهير الشعراء الذين أُعليت منزلتهم وحُفظت سيرتهم، وخُلِّدت قصائدهم. وفيما يلي نبذة عن بعض كبار الشعراء في منطقة نجد، ومختارات من بعض أشعارهم التي حُفظت في الصدور وتداولها الرواة على مر الدهور.. ومنهم:
محمد بن لعبون
هو محمد بن حمد بن لعبون.
من أشهر أعلام الشعر النبطي في الجزيرة العربية. عاش في القرن (الثالث عشر الهجري). له شعر غنائي جميل واشتهر باللعبونيات. ولد في بلدة حرمة في منطقة سدير بنجد، ثم رحل مع أهله إلى بلدة ثادق، ثم رحل لوحده إلى الزبير قرب البصرة في العراق، ثم إلى البحرين، فالكويت وبها توفي.
نشأ محمد بن لعبون في بيت علم وأدب، فوالده الشيخ حمد بن محمد بن لعبون كان من مشاهير المؤرخين والنسابة. ويدل شعر محمد بن لعبون على اطلاعه الأدبي وثقافته وتأثره بأشعار القدماء. له قصيدة مشهوره تسمى «المهملة» وهي عبارة عن حوالي ثلاثين بيتاً كلها بدون أحرف منقطة، مما يدل على تمكن الشاعر من اللغة، وغزارة مفرداته، وسعة اطلاعه، وقدرته على الإبداع.
وفيما يلي بعض الأبيات من قصيدته:
أحمد المحمود ما دمعٍ همل
أو عدد ماحال واد له وسال
أو عدد ما ورد وراد الدحل
أو رمى دلوه وما صدَّر ومال
أو حدا حادٍ لسلمى أو رحل
سار هاك الدار أو داس المحال
أحمده دومٍ على حلو العمل
سامع الدعوى ومعطٍ للسؤال
حميدان الشويعر
هو حمد بن ناصر السياري.
لُقِّبَ بـ»الشويعر» (تصغير شاعر). أحد أشهر أعلام الشعر النبطي في منطقة نجد. ولد في بلدة القصب في إقليم الوشم شمال غرب الرياض، وعاش في القرن (الثاني عشر الهجري). «كان فقيراً قصيراً ذكياً حاداً، ويتضح من شعره أن له اطلاعاً على أخبار العرب وأشعارهم.
اشتهر حميدان الشويعر بالهجاء اللاذع، حيث هجا الكثير من أعلام وبلدات نجد في زمانه، كما هجا بلدته وجماعته وأبناءه بل وحتى نفسه! ولذلك شبَّهه البعض بالحطيئة. لكنه أُشتهر أيضاً بقصائد النصح والحكمة، وما زالت أشعاره تتردد على ألسنة الناس في نجد إلى اليوم.
يقول في إحدى قصائده:
تلقى الجماعة من شجرةٍ وحدة
وطبوعهم مختلفه الله قدرا
يطلع بهم خطو الكذوب المارج
غوجٍ ولو جوِّد عنانه يطمرا
ومن الجماعة شايخٍ متشيخ
والنايبة عنها تقول مذيرا
إلى مشى بالسوق إلاه ملوذع
عن خاطرٍ يقضب قضابه ما درا
ومن الجماعة حاملٍ متحمل
ما فات يومٍ ما لضيفٍ ما قرى
إلى لفى الطرقي يدوِّر بيته
وهو سواة العد يرد ويذكرا
ومنهم سواة الديك رزة عنقه
والمرجلة عنها يصير إلى ورا
وفيهم من كنه ضبيبٍ منتفخ
متبخترٍ يسحب ثويبه جرجرا
كن الضّعيِّف شايلٍ سبع الطبق
هو ما درى انه خف ريش الحمرا
ومـن الجماعة من ينط بمرتبة
بالدين لو هو ما يخط ولا قرا
يدرق بدين الله دينٍ غادر
والله علامٍ بما هو يضمرا
ومنهم ملاقٍ علومه برقة
سملقٍ ما له مكانٍ يخبرا
إلى حلف وإلى يمينه قاطع
ولسينه باللطلطه ما يسدرا
ومنهم هميليلة صغيرٍ حوضها
لا هيب لا تثمر ولا فيها ذرا
وفيهم من كنّه دقيلة قنعة
دب الليالي حوضها ما يحفرا
يدعون للكرمة ولا يدعونه
وإلى حصل شـورٍ فعنهم يقصرا
وان جت خسارة فهو الاول منهم
غصبٍ على ذقنه وماله يعشرا
ويقول:
يا صبي استمع من عويدٍ فهيم
وفي كل غبة من الفكر عايم
أعسف القوافي بسبك المعاني
واسخِّر صعبها بليا شكايم
أقول النصايح واعد الفضايح
على اللي فعلها ولا اخاف لايم
واعرف الدروس وكل الرموس
وادل الموارد بليا علايم
بهذا الزمان يبين الصديق
إلى بار فيها ردي العزايم
وانا اذخر رفيقي لهذا ومثله
إلى جاء نهارٍ يشيب اللمايم
صديقي عرفته إذا ما لحظته
واميز عدوي وفيهم وسايم
حجاجه وعينه لمثلي دليل
وغبي المعرفة فلا هو بفاهم
ومن لا يميز صديقه وضده
فهو ثور هـورٍ يبي له ردايم
إبراهيم بن مزيد
هو إبراهيم بن زيد المزيد
من أهالي حوطة سدير، في منطقة سدير. عاش حياة التنقل والترحال، ونظم أجزل الأشعار.
له قصيدة مشهورة أصبحت بعض أبياتها مثلاً يردد على مر الزمان؛ يقول فيها:
ألا يا ليت ربي يوم سوى
عبيده حط للطيب علامه
على شان الذي بالناس جاهل
يعرف الحر من برق الجهامه
ويقول في إحدى قصائده المشهورة:
يا اهل الهوى حذرا تمرون خيطان
الموت فيه مركزاتٍ خيامه
كان مغترباً فنام عند أحد معارفه، وكان طوال الليل يحلم بأحلام مزعجة لفتت انتباه جاره، فلما أصبح الصبح سأله عن حاله، فكان رده شعراً، حيث نظم قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
غريب الدار لا تبحث كنينه
على ما فيه جعل الله يعينه
على ما فيه خلوه متدامل
يكفيكم عن ابحاثه ونينه
أقول ان الفتى يمشي مدبَّر
ولا له غير ما كتب بجبينه
ولاني بـ افتخر فيما أقوله
كلامي كل ابوكم خابرينه
تعرفون الغريب إلى تعدى
بلادينه وربعٍ عارفينه
وهو في دار قومٍ ما تعرفه
كلامه عندهم مثل الرطينه
يجر الصوت من غير اختياره
ولا حوله قرايب سامعينه
هواجيسه تلاطم في ضميره
تراوا له كما راكب سفينه
يقوله واحدٍ غرَّب وجرَّب
وذاق من الدهر زينه وشينه
وشاف ان الفراق أكبر مصيبه
وأمر من الصبر يا ذايقينه
وهذي دبرة الله يا محمد
غريب الدار لا تبحث كنينه
ويقول في إحدى قصائده من الحكمة:
لقيت الناس ما منهم سلامه
لزومٍ يلحقك منهم ملامه
ولا تحسب حلالك لو تبيده
يبي يحماك عن هرج الفدامه
بذرت الجود في من لا جزاني
سوى ذمٍ إلى هبت ولامه
حقود القلب نقال الوشايا
هذورٍ سهمته نقل النمامه
إلى منّه طرى له ما طرى له
تكلم ما يثمن وش كلامه
يقوله يزعم إنه مازحٍ به
وهو ينقض ويفتل في عدامه
دخيل الله من خطو السملَّق
إلى بالهيذوان أطلق لجامه
ألا يا ليت ربي يوم سوى
عبيده حط للطيب علامه
على شان الذي بالناس جاهل
يعرف الحر من برق الجهامه
لأجل بالناس شيطانٍ ملبَّس
ولو لوَّى على راسه عمامه
يغرك بالسلام وبالتحفي
وهو شيحٍ وجثجاثٍ طمامه
مثل هذا تحذَّر منه جداً
ولا تدني منامك من منامه
وبعض الناس في ممشاه رافق
يختل الناس في قل اهتمامه
وبعض الناس يبدي لك نصيحه
ولكن ما تعرفه وش مرامه
وهو ما مقصده نصحٍ ولكن
يبي يلبسك للحاجه خطامه
وإلى منه قضى بك ما يريده
أخذ سدك وضربك المهامه
وبعض الناس يوري لك محبه
وأرق من البريسم في تمامه
إلى قام يتمسكن بالتلفظ
تقول أطهر وأصح من الحمامه
وبعض الناس محمود السجايا
رقى العليا بعزمه والتزامه
إلى منه بدى لك فيه لازم
قضى لازمك ما ثمن حطامه
كمى انه وافيٍ في كل خصله
عريب الجد خاله من عمامه
أسال الله يرفع كل خيِّر
عن الخذلان لا يهفي مقامه
قضى نظمي وما لاق بضميري
حلات القيل مبداته ختامه
أقول الناس مشكاهم على الله
لزومٍ يلحقك منهم ملامه
ومن خلال تلك الأشعار الجزلة التي نظمها هؤلاء الشعراء المُجيدون يتضح لي حسب رأيي المتواضع وعكس ما يرى الكثير من متذوقي الشعر؛ بأن الشعر العامي يتفوق على الشعر العربي الفصيح من ناحية الغوص في النفس البشرية وسبر أغوارها وإجادة تحليل الدوافع التي قد تختفي وراء ستار من التصنع والنفاق. وكأمثلة على ذلك سأورد عدداً من الأبيات المختارة من ثلاث قصائد لثلاثة من الشعراء العاميين الذين أجادوا في شعر الحكمة، وجميع تلك الأبيات تتناول موضوعاً واحداً هو الحث على حفظ السر والنصح بلجم اللسان والتحذير من الثقة المفرطة في الآخرين الذين قد يظهرون عكس ما يبطنون:
الشاعر محمد الأحمد السديري
كم واحدٍ له غاية ما هرجها
يكنها لو هو للادنين محتاج
يخاف من عوجا طوالٍ عوجها
هرجة قفا يركض بها كل هراج
يقضب عليك المخطية من حججها
حلوٍ نباه وقلبه أسود من الصاج
الشاعر صقر النصافي
يا علي لا جيت العرب لا تجي ديش
خبلٍ ليا جاب السوالف سردها
احفظ لسانك لا يجي فيه تبطيش
تصبح عيونك كايداتٍ رمدها
يجيك من ينشدك نشدة بتفتيش
يبي يسنّع هرجةٍ يعتمدها
خله يقوم مفلتٍ في يده ريش
يروح عنك وحاجته ما وجدها
ترى دعابيل الخبول الفوانيش
تبدي بما فيها ولا احدٍ نشدها
يجيك واحدهم يورش بتوريش
عجاجته يسبق مطرها رعدها
واللي لغمقات السوالف مناقيش
قرَّاية الكلمة علي أول مددها
تجي سوالفهم بضحكٍ وتبهيش
وقلوبهم محدٍ يفكك عقدها
الشاعر إبراهيم المزيد
وبعض الناس يبدي لك نصيحه
ولكن ما تعرفه وش مرامه
وهو ما مقصده نصحٍ ولكن
يبي يلبسك للحاجة خطامه
وإلى منّه قضى بك ما يريده
أخذ سدّك وضَرَّبك المهامه
هذه الأبيات المختارة كأمثلة توضح كيف أن هؤلاء الشعراء العاميين من الأميين أو منخفضي التعليم أبدعوا في الدقة في الوصف والعمق في التحليل والمهارة في السبك؛ فأصابوا كبد الحقيقة وأوصلوا المعنى بأقل قدر من الكلمات وتميز نظمهم بالجرس الموسيقي والوضوح وعمق التعبير.
ويستطيع القارئ المقارنة بين الأبيات المدرجة في هذا المقال وبين بعض القصائد التي نظمت بالفصحى؛ ليدرك جزالة الشعر العامي وأنه لا يقل بل ربما يتفوق أحياناً على الشعر الفصيح، وأن الشعراء العاميين في نجد قارعوا كبار الشعراء في العصور القديمة بدايةً من العصور الجاهلية مروراً بعصر صدر الإسلام ووصولاً إلى العصور المتأخرة بل وربما تفوقوا عليهم في بعض الأحيان، فالشعر النبطي أوضح تصويراً وأدق تعبيراً، والشعراء العاميون أكثر قدرة على الغوص في أعماق النفس البشرية وأكثر تمكناً من تفسير كنه التصرفات وسبر مكامن الغرائز، فكأنهم بذلك من المتخصصين في علوم النفس والاجتماع والسلوك البشري برغم قلة تعليمهم وقسوة الظروف التي عاشوا فيها. وبرغم كون الشعراء العاميين في منطقة نجد شبه المغلقة وقليلة الاتصال بالعالم الخارجي؛ إلا أنهم رغم ذلك امتلكوا شاعريةً فذة ومخيلةً خصبة ومخزوناً هائلاً من كنوز الحكمة.