في لقائه على قناة أبو ظبي في برنامج أبو ظبي تترجم، وفي حلقة «كتب عربية ألهمت الحضارة الغربية»، ذكر الدكتور سعد البازعي أن تأثير كتاب حيّ بن يقظان لابن طفيل الأندلسي - رحمه الله - يتخطى سطحية قصة طرزان المعروفة (فتى الأدغال) إلى مسائل فلسفية عميقة تناقش العلاقة بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة. وقد حفزني هذا التعليق لكتابة هذه المقالة.
يطرح علماء البيولوجيا فرضيات تشرح نشأة الحياة من العدم (اللاحياة)، ويتفقون - علمياً - على أن خليطاً من المواد الكيمائية المجتمعة في حوض من الماء الساخن تعرض للرطوبة والحرارة المعتدلة وتحت ظروف معينة نشأت الحياة من اللاحياة، في عملية تسمي التخلق (التولد) التلقائي Abiogenesis وقد دل سجل الأحافير والتاريخ الكربوني على أن عملية التخلق التلقائي حصلت قبل 3.8 بليون سنة. ويسمي علماء العصر الحديث هذه المادة الأولية والتي انبثقت منها الحياة بالخليط البدائي أو الحساء الأولي primordia soup، وقد انتشرت هذه الفرضية تقريبا في القرن التاسع عشر الميلادي.
والأمر المثير للاهتمام هو أن هذه الفرضية ذكرها ابن طفيل الأندلسي (1105 - 1186 م) في كتابه حيّ بن يقظان؛ حيث روى قصة طفل الغابة واسمه: (حيّ) والذي ولد دون أب وأم، وترعرع في جزيرة في المحيط الهندي، وقد كانت هناك ظبية «غزالة» كانت بمثابة الأم له؛ فتبنته، وأرضعته حتى اشتد عوده، ثم بعد موتها أصبح لزاما عليه الاعتماد على نفسه؛ لمعرفة العالم من حوله، فاعتمد على حب الاستطلاع والفضول خلال وجوده في الجزيرة معزولا عن أي اتصال بالعالم الخارجي.
وفي نهاية الأمر قادته دقة الملاحظة والتفكير والاستقراء للنباتات والحيوانات في الجزيرة إلى فهم العالم الخارجي من حوله، ووصل إلى المعرفة الحسية والعملية. إذ يفترض ابن طفيل أن الفطرة السليمة للإنسان تمكنه من تحقيق أعلى درجات المعرفة والإيمان، حتى لو كان معزولا دون أب، أو مرشد، أو معلم. وما يهمنا هنا هو ما ذكره ابن طفيل عن ولادة (حيّ) من دون أب وأم بطريقة تشابه ما ذكره علماء الطبيعة والبيولوجيا في القرن التاسع عشر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه من خلال بحثي المكثف في المصادر والمراجع، لم أجد مصدرا يتحدث عن هذا التقارب الشديد بين ما ذكره ابن طفيل، وما افترضه علماء الطبيعة بعده بـ 7 قرون تقريبا حول عن نشأة الحياة من العدم.
ويقص علينا ابن طفيل طريقة ولادة بطل القصة - حيّ بن يقظان - وهنا سأذكر الاقتباس بكل دقة لمساعدة القارئ على فهم السياق - في قوله:
«ذكر سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - أن جزيرة من جزر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولّد بها الإنسان من غير أم ولا أب......».
ثم يذكر في موضع آخر «وأما الذين زعموا أنه (يقصد بطل القصة حيّ بن يقظان) تولد من الأرض، فإنهم قالوا: إن بطلنا من أرض الجزيرة، تخمرت فيه طينة على مر السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب باليابس امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى، وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جدا، وكان بعضها يفضل بعضا في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون الأمشاج. وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه بمزاج الإنسان، فتمخضت تلك الطينة وحدث فيها شبه نفاخات الغليان؛ لشدة لزوجتها، وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدا منقسمة بقسمين بينها حجاب رقيق ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى» انتهى.
كما تلاحظون ويلحظ هنا أن ابن طفيل وصف نظرية التخلق التلقائي بتفصيل عجيب، يبدأ من وجود الطينة المتخمرة (primordia soup) وتأثير الرطوبة والحرارة عليها، مما جعل الحياة تنبثق من اللاحياة، وهذه باختصار نظرية التخلق (التولد) التلقائي Abiogenesis وأكد على أن الله سبحانه وتعالى هو من بث فيها الروح.
ولم تسعفنا المراجع في تتبع أصل هذه النظرية وكيف وصلت لعلماء الأندلس؟ وهل تطورت النظرية وتم تعديلها إلى أن وصلت إلى النضج الذي ذكره ابن طفيل؟
إن أقرب ما يحضرني عن تفسير نشأة الحياة عند العلماء السابقين هو ما ذكره الشيخ الرئيس ابن سينا (980 - 1037 م) - رحمه الله - في كتابه (القانون في الطب) من أن الحياة تدوم بالحرارة، وتنمو بالرطوبة، فربما وجدت هذه المعلومة طريقها إلى ابن طفيل والذي مزج الرطوبة والحرارة، فطرح نظرية عملية التخلق (التولد) التلقائي.
والأغلب - في ظني - أنها تطورت مع تعاقب العلماء وازدهار العلوم في الأندلس؛ لأن الثورة العلمية في علوم الطب والفلك والفلسفة خلال تلك الفترة قد تكون شجعت العلماء على الإجابة عن على هذا النوع من الأسئلة الوجودية الفلسفية.
كان ولا زال الإسلام هو المحرك الأول للحضارة الإسلامية لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم، فقد قال الله - عز وجل - (قُلْ سِيرُوا فِي الأرض فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ). وهذا ملك فرنسا فيليب الثاني يتأسى على حالهم من اضطهاد الكنيسة للعلوم والعلماء فيقول: «طوبى لصلاح الدين الذي ليس عنده بابا»!.
** **
- د. محمد سارح العسيري