عبد العزيز الصقعبي
ربما أبدأ من لحظة دخولي بيتي عائداً من عملي، ليس هنالك أي جديد لأتحدث عنه سواء في العمل أو في الطريق الموصل لبيتي، ولكن حين دخلت بيتي لم أكن أتوقع أن ينتابني شعور أنني غير مرئي، لا أحد يراني، حتى عندما وقفت أمام مرآة وُضِعت عند المدخل، لم أشاهد نفسي كالعادة، لم أرَ شيئاً إطلاقاً، تذكرت الأفلام والمسلسلات التي تتحدث عن الرجل الخفي وطاقية الإخفاء، ولكن بالنسبة لي فأشعر أن الأمر مختلف، أنا كنت إنساناً عادياً طيلة الفترة السابقة، وحتى الساعات القليلة التي مضت لم ألاحظ ولم يلاحظ الزملاء أيضاً أي شيء مختلف، وعندما دخلت البيت، اختفيت، اختفيت تماماً، كأنني غير موجود، أنا أشاهد كل شيء، ولكن لا أرى نفسي ولا أشعر بأنها تحتل مساحة في الحيز الذي أقف أو أتحرك به، بل أيضاً لا أشعر أن لي ثقلاً أو كينونة تجعلني أصطدم بما أقابلة سواء كان باباً أو جداراً، هل تحولت إلى شبح، أنا غير مرئي ولكن لا استطيع أن أنفذ من خلال الجدران، أنا أتحرك كإنسان عادي استخدم الأبواب للدخول، أجد نفسي واقفاً في وسط غرفة المعيشة، زوجتي تجلس قريباً من جهاز تلفزيون تشاهد مسلسلاً درامياً، في جانب آخر تجلس والدتي على كرسيها المريح، وقد غطت نصفها السفلي بلحاف كعادتها، وفي الوسط تجلس ابنتي ومعها كتاب تقرؤه، وبعيداً في الركن يجلس ابني الصغير أمام حاسب آلي محمول يتابع عبر منصة تعليمية أحد دروسه، أنا الآن بينهم أقف في وسط غرفة المعيشة، لم ينتبه أحد لوجودي، تحركت أردت أن أحدث صوتاً، ولكن لست شبحاً أنا موجود وغير موجود، أقترب من كل واحد منهم أشعر بأنفاسه، أكاد ألتصق بجسده، ولكن وهذا ما يزعجني، أن مع قربي هذا فلا أثر لوجودي، أحاول أن أمسك بيد أمي أقبلها، ولكن يدي لا تصل إليها، على الرغم من قربي الشديد، محاولاتي تفشل، لا أشعر بدفء جسد الأم، وهي الأقرب لي، قبل زوجتي وابنتي وابني، أسمع كل شيء وأرى كل شيء، ولكن لا أحس بأي شيء، لا أشعر بأنني موجود، وهم بكل تأكيد، لم يشعروا مطلقاً أنني موجود، أقرر أن أذهب لغرفة النوم، أغير ملابسي، ألبس ملابس البيت، أفقد القدرة على تغيير ملابسي، لا زلت بملابسي التي كانت علي منذ صباح هذا اليوم، حتى العقال، الغترة، أكرمكم الله الجزمة، لم استطع خلعها، أنا أشعر أنني أرتديها، ولكن لا أراها، لا استطيع الإمساك بالعقال أو الغترة وتغيير وضعها، لقد اتخذت الغترة شكلا ثابتاً منذ أن غيرتها وأنا في الطريق لليت، حيث جعلت أطراف الغترة على الجانبين في الأمام كأنني سألبس بشتاً عليها، أو كالشكل الرسمي، أتمنى أن تكون لدي القدرة أن أغير الشكل، ولكن لا أقدر، أغادر غرفة النوم يائساً من التغيير، أتوجه لدورة المياه، أغسل وجهي، ولكن لا أشعر مطلقاً بالماء، شعرت بقدرتي على فتح الصنبور، ولكن بعد ذلك بقي الماء ينهمر دون أن أتمكن من إغلاقه، ودون أن استفيد منه، قررت أن أقف تحت الدش بملابسي، خفت على المحفظة وهاتفي المحمول الموجودة في جيب ثوبي الجانبي، قررت أن أضعهما على طاولة بركن الحمام، ولكن أشعر بوجودهما ولا استطيع أن أخرجهما من جيبي، أقف تحت الدش، وأقرر أن أفتح الماء ليغمرني، لا يهم ليبتل ثوبي، ملابسي الداخلية والخارجية كلها، كأنه مطر، ولكن الماء ينسكب على الفراغ قوياً، لم أشعر بالبلل، لم يصل الماء لجسدي أو ملابسي، هذا ما أشعر به، أحاول أن أغلق الماء، ولكن يستمر بالانهمار كما صنبور مغسلة اليدين، ربما تسمع زوجتي صوت الماء وتأتي لتغلقه، أغادر دورة المياه غير مبتل، ومبتلى بعدم الوجود، أقرر أن أصرخ، فعلا أصرخ ولكن لا أحد يسمعني، أعود إلى غرفة المعيشة، زوجتي خفضت من صوت جهاز التلفاز عندما لا حظت أن والدتي أغمضت عينيها مستسلمة لغفوة قصيرة، لا زالت ابنتي منهمكة بقراءة الكتاب، وابني الصغير وضع سماعتين على أذنيه ليكون أكثر تركيزاً وهو يستمع لشرح الدرس عن بعد، أحاول أن أتحرك، أقفز، أصرخ، رغم أنني لا أريد أن أزعج والدتي، ولكن وضعي هو المزعج كثيراً، هل ترضى أمي أن تفقدني، هل سترضى أن أكون غير موجود، هل ستقبل زوجتي بوضعي هذا، وماذا عن أبنائي، أنا مهم لكل واحد منهم، وهذا ما أحرص عليه دائماً، فوجودي مهم في حياتهم، وأثق بأنه لا أحد يرغب أن أكون شبحاً وجودي وعدمه سواء، أنا الآن أعاني مشكلة الوجود وغير الوجود، أنا في البيت ولست في البيت، بل إن دخولي للبيت مسموع، ولكن لم يسمع أحد، أي صوت، كيف دخلت، فتحت الباب، أوقفت سيارتي تحت ظل شجرة زرعتها منذ سنوات، وكبرت، عند مدخل البيت، فتحت باب الفناء ودخلت، هذا الذي أذكره تماماً، وأشعر به، ثم دخلت البيت، عبر المدخل الرسمي والذي اعتدت أن استخدمه، أذكر كان الباب موارباً، دخلت، وبعد ذلك، شعرت أنني اختفيت، وها أنا أشعر به الآن، دفعت بالباب الموارب قليلا ودخلت، ثم، أذكر أنني أحسست بالباب الحديدي عندما أمسكت به، ولكن حين أصبحت داخل البيت أصبح لدي إحساس بالاختفاء، وفعلً مباشرة اتجهت للمرآة، ومنذ تلك اللحظة وأنا غير موجود.
أنا الآن أتحرك في كل أرجاء منزلي، علَّني أشعر بوجودي، ربما يفطن أحد من عائلتي بأنني موجود، أشعر بالتعب، أصرخ لا أحد يسمع، أحاول أن اقترب من كل واحد منهم، لا أحد يشعر بوجودي، أقرر أن أخرج واتجه لسيارتي وأعود للعمل، ربما نسيت نفسي هناك، أحضرها معي، أتقمصها ألبسها، المهم أن أشعر ويشعر الجميع أنني موجود، مفاتيح البيت والسيارة في جيبي مع هاتفي المحمول ومحفظتي، ولكن لا استطيع الإمساك بها، هل استطيع أن أغادر بيتي وأقود السيارة واتجه إلى عملي ثم أعود إلى بيتي، لا أشعر بقدرتي على ذلك، ليس أمامي إلا العودة لمدخل البيت والإمساك بالباب الذي شعرت بالإمساك به عندما أبعدت قليلا لأتمكن من الدخول، أنا متأكد من ذلك، كان موارباً وأقرب للإغلاق، وأبعدته قليلا وشعرت بذلك، وبعد ذلك انتابني شعور بالاختفاء.
أغمض عيني، وأحاول أن استرجع تلك اللحظة، لحظة دخولي بيتي، لا أقدر.
أفتح عيني، ألمح وجه أمي، زوجتي، ابنتي، ابني، ألمح القلق بادياً عليهم، أمي تضع يدها الدافئة على جبيني تتحسس حرارتي، زوجتي معها كوب ماء، ابنتي وابني يسنداني وأنا جالس عند الباب الموارب.