أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
- قال (أبو خراشة):
أُشهِدك، أيها الإمام الهمام الأكبر، بأني متنازلٌ عن تبعات ما شجرَ بيني وبين حبيبي، وقُرَّة عيني الخَرشاء، (العباس بن مرداس السُّلَمي، رضي الله عنه وأرضاه)، في القرن السادس الميلادي أو السابع، شريطة أن لا يغدو ذلك سببًا في شجار أكبر بين العُربان كعادتهم إلى يوم يبعثون، وما ذاك إلَّا لبيتٍ زلَّ به لسانه فيَّ، عن غير قصد، قال فيه:
أبا خراشة، إمَّا كُنتَ ذا نَفَرٍ
فإنَّ قوميَ لم تأكلهم الضَّبعُ
ثمَّ أصرَّ النُّحاة، كعادتهم أيضًا، «ولكلِّ امرئٍ من دهره ما تعودَ»، أنه إنما قال:
«أبا خراشة، أمَّا أنت ذا نَفَرٍ ...»
ومذ هذا البيت المشؤوم أكلتهم ضبع النحو، وإلى يوم الناس هذا. بل أخشى في الأمر ما هو أدهى وأطم، وهو أن يكون ذلك سببًا في فساد العربية كلها، بعِلم نحوها؛ لتلك الرواية الغريبة التي أدلى بها سيبويه، بلا سند، ولا متن سليم؛ فأثارت الزوابع في ديار العُربان قاطبةً خمسة عشر قرنًا أو تزيد، وما زالت، وواضح أنها ستستمر!
فما كان من أحد تلامذة الإمام الأكبر، ويكنى بـ(أبي قوس النشاشيبي)، إلَّا أن انبرى لأبي خراشة:
- أ وتظن دخول السرداب كالخروج منه؟ ثكلتك أُمُّك! ألم يقل صاحبك (ابن أبي الآفاق التراثي) في مقال سابق تحت عنوان «من أوهام النحاة» ما قال؟ وأيُّ أوهام توهَّمها لدينا، وعِلمنا لَدُنِّيٌّ مُحكَم، لا تخرُّ منه قطرة ماء، يقينيٌّ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا من فوقه ولا من تحته؟ ثمَّ سَلْ صاحبك: ومن أنت، أيها النويقد، حتى تخرج من مجال الأدب إلى الثقافة، ثمَّ اليوم نراك تتجرأ لتقفز إلى حِمى نحونا المصون وأربابه؛ لتتعرَّض لسيِّدنا ومولانا الإمام الأب، رائحة التفاح الزكيَّة الفارسيَّة، قدَّس الله أسرار نحوه، أو لتتمادى لتناقش أحد ورثته الأبرار، ابن هشامنا الأنصاري المصري، هشم الله شانئيه، وشذر ناقديه، عليهم من الله ما يستحقون! وهو الذي أصلح لنا النحو، على حين غفلةٍ من الزمان، فشذَّره تشذيرًا، وقطَّره تقطيرًا، كما هذَّب سميُّه (ابن هشام البصري) سيرة (ابن إسحاق)، فمحقها محقًا، معمِلًا فيها مشارط التهذيب والتشذيب، إلى أن حذف معظمها واستراح، ومَن لم يفهم النحو أو التاريخ، فلا فَهِم، وليشرب من بحر الروم!
ألم يأتيكَ والأنباء تَنْمِي
بما لاقتْ لَبُونُ بَنِي زيَادِ
لا جرم، سترى منا ما لم تره (البسوس) من (كُلَيب بن ربيعة)، حين انتهكت حِماه! أ ولم تسمع بأن لحوم علمائنا مسمومة؟! ثمَّ ألا تعرف بأن بلاد فارس وبلاد مِصْر لهما سحرهما الغلَّاب منذ القِدَم، فمن دخلهما مغالبًا لم يعد أبدًا آمنًا! هيهات هيهات، لقد وقعتَ ولم يُسَمِّ عليك أحد!
فإذا (ابن أبي الآفاق) بالباب:
- سمعت صوتًا هاتفًا!
أبو خراشة: «الحقني»، يا ابن أبي الآفاق! ما قولك في ما شنَّه (أبو قوس النشاشيبي)؟
- وربِّك، ما كنتُ أحسب أن حكاية «أمَّا أنت ذا نفرٍ» تستأهل من النحويِّين كل ذلك الاحتفال في كتبهم، سواء أ صحت أم لم تصح، حتى أثبت لي صاحبك أنها لديهم كذلك، بالفعل والقوَّة، وأنها قضيَّة لا يستهان بها، ولا ينبغي أن يُعرَض لها بنقدٍ أو بتشكيك، كيف وقد جاءت في كتاب «الإمام سيبويه». حتى لعلَّه لو بُعِث ابن مرداس شخصيًّا، لما كان أشد حماسة ضدَّك، يا أبا خراشة، من حماسة هؤلاء النحاة لإثبات رواية بيته الغريبة عن قواعدهم، التي قعَّدوها فصدقناهم! بل لو جاءهم ابن مرداس شخصيًّا، فأقسم لهم أنه إنما قال: «أبا خراشة، إمَّا كُنتَ ذا نَفَرٍ»، لقالوا له: كذبت، ومن أنت لتصحح لنا رواية بيتك؟ بل قلت: «أبا خراشة، أمَّا أنت ذا نَفَرٍ»! اعترف، أحسن لك! لا حُجَّة بكلامك، ولا بديوانك، ولا بمن شهد لك من العلماء والمحققين، القدماء والمحدثين، وإنما المعوَّل عليه ما في كتبنا نحن، التي أولها كتاب إمامنا الأعظم سيبويه وروايته! اغرب، تبًا لك، لا تفسد علينا تراثنا الجدليَّ المتوارث وشواهدنا! أمَّا صاحبك، فلا ريب أنه أستاذ الأساتيذ في هذا الميدان، وهو ابن بجدتها، ولا فتوى وهو بالمدينة. وهو نحوي مستنير، في ما نحسب، غير أن الحُبَّ غلَّاب، والصنعة قد تُعمي وتُصِم. وما كنتُ لأعقِّب على كلامه النفيس، لولا أنه طرح بعض الإشكالات والتساؤلات.
وبدايةً، أحب أن أطمئنه، وزملاء النحو أجمعين، المستقدمين منهم والمستأخرين، بأنني لست «ممن استُهتِروا بشنآن النحو والنحويين، حين توهَّموا أن حماية العربية وإصلاح شأنها إنما يكون بالزراية على نحوها وعلى أعلامه، متجافين عن النقد العلمي الجاد، وهم أهل النقد وسدنة علمه»، كما تفضَّل. ولكن لماذا يحسبون كل صيحة بالنقد شنآنًا لهم، وكل دعوة لنفض الغبار عن التراث، وتجديد مناهجه، زراية وعداءً لأئمتهم؟! ثمَّ أينهم من النقد العلمي الجاد؟ وما النقد العلمي الجاد؟ أتقديس السلف، واتخاذهم أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وجعلهم فوق النقد والتساؤل والشك؟ وأين نحن من قول (مالك بن أنس)، مثلًا: «كل يؤخذ من كلامه ويُرَد»؟
ولقد كان مبتدأ نقاشي لجهود النحاة هو لتفكيك خطاب أحد القمامصة المشلوحين المتسلحين بأقوال النحاة للطعن في «القرآن الكريم»؛ لأنه بزعمه مخالف لقواعد النحاة. ثم انقلب النحاة ليصطفوا مع القمُّص، من حيث لا يعلمون، منتصرين له، مشرعين له ولغيره الأبواب، بترديد ما جاء عن آبائهم، متبعين سننهم، حذو القُذَّة بالقُذَّة. فيا لله العجب! بل جعلوا يثبتون أن النحو نفسه، في كثير منه، لا يعدوا اجتهادات مضطربة، وتمنطقات بيزنطيَّة عقيمة، وآراء متضاربة، وشواهد ملفقة، واضطرابه وعقمه وتضاربه وتلفيق شواهده كل أولئك تمثِّل فيه عين وجوده، وسر خلقه، وأصل بقائه. لا زيادة لمستزيد، وليس في الإمكان أبدع مما كان!
قال (أبو خراشة) عن (أبي قوس النشاشيبي):
- إن بيت ابن مرداس «لم يصدمهم، ولم يفاجئهم؛ فقوله جاء موافقًا لاستعمال عربي عرفوه فذكروه، وسيبويه يروي أمثلة ذلك التركيب عن أشياخه ولا يزعم ذلك زعمًا...».
- هذا ادعاء فضفاض. ولنسلِّم أن سيبويه كان راوية عربيًّا، بل كان كـ(الأصمعي) أو (المفضَّل الضَّبي)، ومن أبناء البادية العربيَّة، ومن رواة مدرسة (زُهير بن أبي سُلمَى) الممتدة، لا شيرازي المولد فارسي النشأة، انطلق من عُقدة تلحينه في النحو إلى صناعة النحو الذي كان لحَّنه فيه أستاذه (حَمَّاد بن سلمة)، في حكاية لحنه المشهور في الحديث النبوي، هكذا: «ليس من أصحابي أحدٌ إلَّا لو شئت لأخذت عليه، ليس أبو الدَّرداء»، حتى انصرافه عائدًا من بغداد إلى بلاد فارس، بعد المسألة الزنبوريَّة الأخرى بينه وبين (الكسائي)؛ لنسلِّم بامحاء هذا كله، وأنه لا أثر له، نفسيًّا ولا ذهنيًّا، كأنه لم يكن، وأنه فوق ذلك راوي الرواة، فما أهميَّة رواية ما روَى والتقعيد له والانشغال به؟! لقد أهمل اللغويون كثيرًا من كلام العرب، ولم يستشهدوا به، لأسباب ساقوها مكانية وزمانية، وتركوا كثيرًا من كلام العرب، حتى قال (أبو عمرٍو ابنُ العلاء): «ما انتهَى إليكم ممَّا قالت العربُ إلَّا أقلَّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم عِلْمٌ وشِعرٌ كثير.»(1) فيا ليتهم تركوا أيضًا تلك الرواية للغرائب والعجائب من كلام العرب، وإنْ صحَّت، بل ليتهم لم يشغلوا أنفسهم وأهل العربيَّة بها، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع، وإنما يصدق فيها القول: إنها من قبيل العلم الذي لا ينفع والجهل الذي لا يضر.
هذا، ولقد جاء كتاب سيبويه خليطًا من مسائل النحو واللغة واللهجات، على طريقة التأليف في زمنه، فهو «كتاب» عامٌّ في العربيَّة، حتى إنَّ مؤلِّفه لم يحدِّد هويته، بل سمَّاه «الكتاب». غير أن من جاؤوا بعده عدُّوه غالبًا نحوًا، ثمَّ بالغوا في إجلال صاحبه مبالغات فجَّة! فأرهقوا أنفسهم واللغة العربية على مر العصور. وزاد الطين بلَّة التعصب الذي أزرى بالمتأخرين، فلم يعد يدع لديهم فسحة للمراجعة. مع أن القدماء أنفسهم كانوا يختلفون، ويشككون ويتحفَّظون. ومن أولئك (سيبويه) نفسه، القائل عن أستاذه (يونس بن حبيب، -182هـ): «ومن ذلك قول العرب: مَنْ أنتَ زيدًا، فزعم يونسُ أنّه على قوله: مَنْ أنت تَذكُر زيدًا، ولكنه كثر في كلامهم واستُعمل واستغنوا عن إظهارِه»، فلم يتحرج من استعمال كلمة «زعم»، كما لا يتحرج من نسبة الزعم إلى أستاذه الآخر (الخليل) في عشرات المواضع.
- لماذا لم نعد نتحلَّى برحابة صدور هؤلاء؟ سأل (أبو خراشة).
- ذلك أننا ورثة تراث يتراكم مع الزمن ويلتبس. مواقف القدماء وتحيزاتهم لم تكن تبرأ من نزعات شعوبيَّة تارةً، وقبليَّة أخرى، وطائفيَّة ثالثة، تنجم عنها المبالغات في تمجيد عَلَمٍ وصولًا به إلى عنان السماء أو الحط منه إلى الحضيض. ثقافة ظنها المتأخرون بريئة كل البراءة، صادقة كل الصدق، لا تحيد عن الحق. فاصطف فريق مع هذا وفريق مع ذاك، ونشبت المعارك الطاحنة، لا في شأن اللغة والنحو، بل في شأن أولئك الأبطال الأوائل، الذين دارت عليهم وبهم رحى المواجهات على أرضيات اللغة والنحو، فتعصَّب كل جمهور إلى بطله المثالي المتخيَّل.
- قال (أبو خراشة): ثم قال صاحبنا: «تعلم العربية ليس طريقه تعلم النحو بل طريقه تلقي مهاراتها المختلفة بالوسائل المعروفة، وليست هذا الظواهر التي تشِكل بعض الإشكال كل النحو، وليس خطأ المخطئين بمثلها، بل بما هو أيسر مما أحكامه معروفة ميسرة. ولست تجد في كتب تعليم العربية في التعليم العام حديثًا عن مثل هذا البيت وما تعلق به من تفسير.»
- أتفق معه في أن العربيَّة طريقها ليس تعلُّم النحو. لكن هذا لا يعدو كلامًا نظريًّا مُطرِبًا جميلًا، وهو محلَّ اتفاق. غير أن الواقع بخلافه. ولئن لم تكن تجد في كتب تعليم العربية في التعليم العام- من الابتدائية حتى الثانوية- حديثًا عن مثل ذلك البيت الغريب وما تعلق به من تفسير- كما احتجَّ- فإن طالب الثانوية ما أن يضع قدمه على عتبات الجامعة لدراسة اللغة العربيَّة حتى يُلطَم وجهه وقفاه بأمثال قضيَّة «أمَّا أنت ذا نفر»، مع كتاب كـ»شرح شذور الذهب»، والجدال المنطقي الفارغ حولها! ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذا ما يعنينا، لا أن ثمَّة رواية لبيت العباس بن مرداس، لم يسمع بها سوى سيبويه «عن أشياخه»، الذين لم يصل إلينا عنهم شيء أصلًا. كما لا ينبغي أن يشغلنا الانتصار «للإمام» سيبويه، أو غيره، والمسارعة لاتهام من يقترب من حماه بالزراية على الأئمة الأعلام والشنآن لهم، مع تهديده بنحو ما هددك به ابن مرداس، يا أبا خراشة!
- لا تذكرني، فقد سامحته لوجه الله، ثم لوجه الإصلاح بينك وبين معشر النحاة!
- حسنًا، فعلت! وليتنا نترك الشخوص في مدافنهم، ملتفتين إلى النصوص، وتطوير مناهج تدريس اللغة العربية، كما تفعل الأُمم. وهذا ما جاء في حديث لي سابق تحت عنوان «مؤلَّفات العَرَبيَّة: (ضرورة المراجعة والتحديث)». تلك هي القضيَّة المحورية. لكني أفاجأ بأن الهمَّ، كل الهمّ، منصبٌّ على الدفاع عن الإمام فلان والشيخ فلان والعلامة فلان.
- ثم يقول لك صاحبنا: «على الرغم من أن الظاهرة من الشيوع الذي لا يقتضي شاهدًا ذكروا بيتًا آخر هو:
إمّا أقمت وأمّا أنت مرتحلًا ... فالله يَكْلأ ما تأتي وما تذرُ.»
- أيُّ ظاهرة تلك التي هي من الشيوع؟
- ظاهرة «أمَّا أنت ذا نَفَرٍ»، بتركيبها الذي أنفقوا فيه أعمارهم لتحليله وتأويله.
- أ وقد صارت ظاهرة؟!
- هكذا يقول.
- هذا الشاهد الآخر الذي ذكره أوهى من سابقه. فعلى الرغم من القول إنها ظاهرة من الشيوع بمكان، فإنه لا شاهد لديهم عليها. فكيف تُعَدُّ ظاهرة وهي باطنة؟ وكيف كانت من الشيوع بحيث لا تقتضي شاهدًا؟! وكأنها من المفروغ منه، على حد قول المتنبي:
وليس يصحُّ في الأفهام شيءٌ
إذا احتاج النَّهارُ إلى دليلِ
ليس بين أيدينا سوى رواية مرجوحة لأحد الأبيات، عبث بها الرواة أو الكتبة أو النحويون، وبيت مجهول القائل أضافه صاحبك، عن (الزمخشري، -538هـ)، انفرد بالاستشهاد به، حتى لقد قال (الدكتور علي بو ملحم) في تعليقه على بيت الزمخشري: «لم أر مَن نسبه إلى قائله ولا مَن استشهد به.» ونضيف: إن ما لا شاهد عليه ليس بعِلْم يُركن إليه، فضلًا عن أن يبنى عليه ويقعَّد! أين تلك الجمهرة المزعومة من لغة العرب، وهم عاجزون عن الإتيان بشواهدها، وإن أوردوا الشاهد، فإمَّا أن يأتي مجهول القائل، وإمَّا أن يأتي برواية مختلقة، تقابلها رواية موثوقة ومتسقة مع لسان العرب؟ ولولا اقتضاء الشواهد، لما تشبثوا برواية بيت ابن مرداس بأيديهم وأرجلهم، ولما أسعفهم الزمخشري ببيتٍ من خرجه، مجهول القائل، هو ببديعه أشبه بالشِّعر العبَّاسي منه بشِعر العرب الأوائل: «إمَّا أقمت- إمَّا مرتحل/ تأتي- تذر». حسبنا من العربية ما جاء بالروايات الصحيحة عن العرب، ففيه الكفاية وزيادة.
- ثمَّ أردف صاحبنا: «والحق أن سيبويه والبصريون لا يبنون قواعدهم بلا شواهد، وشواهده في هذه الظاهرة أقوال العرب التي نسبها لهم، وأما الرواية الشفاهية فهي العماد في التلقي، وبها روي الشعر الجاهلي والقرآن الكريم، بل شاع بين أهل العلم أن الاعتماد على الصحف مرغوب عنه متهم صاحبه بأنه صحفي. قال العسكري «كَانَ يُقَالُ لَا تَحْمِلُوا الْعِلْمَ عَنْ صَحَفِيٍّ وَلا تَأْخُذُوا الْقُرْآنَ عَن مصحفي».»
- «أن سيبويه والبصريون...»، كذا؟!
- نعم.
- لعلَّ هذه كتلك، ظاهرة من الشيوع في كلام العرب، الذي لا يقتضي شاهدًا. أو لعلَّ لها شاهدًا كشاهد سيبويه المشار إليه! أمَّا ترديد القِيَم المعرفية البدائية الشفاهية، أيام «كان يقال»- تنقُّصًا للوثائق العلمية المكتوبة التي يُعتدُّ بها: «فلان عِلْمه من قراطيس»، مفضِّلين مَن يتلقَّى العِلْم عن شيوخ، ثاني الرُّكَب، وربما أصبح بعدئذ: «ثانيَ عِطْفِه»، أي أنه لا يعتمد على عقله وقراءاته، بل على الحفظ والترديد والاتباع، فتلك أُمَّة قد خلت، البقاء على مبادئها المعرفيَّة البدائيَّة، والاحتجاج بها، في العِقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، لعَمري قاصمة الظهر. أمَّا نحن فسنقول: أين «أقوال العرب» تلك؟ قل: هاتوا برهانكم! على أنه لم يكن اعتراضنا على الرواية الشفاهية، من حيث هي، ولكن على يقينية الاعتماد عليها في دقائق الأمور، كحرف فاصل بين رواية ورواية، وبين مسألة نحوية وأخرى. وعَبَثُ الولدان من الرواة، وانتحالهم، وكذبهم، وازدهار التجارة الروائية في مدرسة البصرة، بخاصَّة، أشهر من وصفها هاهنا. وليس (خلف بن حيَّان الأحمر، -180هـ)- وهو من علماء البصرة في اللغة والنحو- غير عَلَم اشتهر هنالك، وأمثاله كثر. فالسؤال الذي طرحناه: أنَّى تيقَّن سيبويه أن ابن مرداس، قبل زمنه بنحو 15 0 سنة، قال: «أمَّا أنت»، لا «إمَّا كنت»؟! أو قال: «ذا نفرٍ»، لا «ذو»؟! أم أنَّ ذلك إنما وافق حاجةً ماسَّةً إلى شاهد؟! أجل، لقد كان الرواة يتصرفون في الروايات، حتى قال (ابن مقبل): «إني لأُرسل البيوت عوجًا، فتأتي الرُّواة بها قد أقامتها». وربما فُعِل ذلك حسب العرض والطلب، وربما قالها الشاعر مستقيمة، فتأتي الرواة بها قد عوجتها، بحسب الحال والغرض! وما قولي باحتمال وضع واضع على الألف همزة، وتغيير «كنت» إلى «أنت» متعلق بالكتابة بالضرورة، فالتغيير محتمل هنا شفهيًّا وكتابيًّا، وهو في الشفهي أكثر احتمالًا، وقد حدث في ما هو أكبر من حرفين وأخطر. وأمَّا احتجاج صاحبنا بأنه «لا وجود لهمزة في ذلك الزمن تحت الألف، فهمزة الألف أول الكلمة ترسم فوقه أبدًا»، فحجَّة لنا لا علينا؛ لأن معناه أن «أمَّا» يمكن أن تُقرأ «إمَّا» أو «أمَّا» إذ ذاك. فتأمَّل!
- وهو يتساءل بعد هذا: أتطمع في أن «يُقبل ترجيحك ويدع النحاة رواية إمام النحويين الثقة»؟
- الحق أنني لا أطمع في أن «يُقبل ترجيحي ويدع النحاة رواية إمام النحويين الثقة»، لكني أطمع في أن يتواضع النحاة قليلًا، فيراجعوا كتبهم، وكتب أسلافهم، وينقُّوها، ويهذبوها من أوزار متراكمة، أقل ما يقال فيها إنها محض ترفٍ سفسطائي، عفَّى عليه الزمن. فإلى متى يستمر التعامي والمكابرة؟!
- ثمَّ أسهب صاحبنا في نقل ما أورده (الجبوري) حول ديوان (العباس بن مرداس)، لينتهي إلى حكم نهائي، لا رجعة فيه، ولا استئناف، وهو: «لا حُجة بهذا الديوان المجموع، والمعول عليه ما في الكتب التي أولها كتاب سيبويه وروايته»!
- سبحان الله! كاد يقول: «التي أولها وآخرها كتاب سيبويه»! وأنا أعلم، طبعًا، أنه ديوان مجموع، وهو أَمامي، لكن رُب مجموع خير من مخطوط. غير أن صاحبك لم يلتفت إلى قول المحقق هناك: «فقد أفدت من المخطوطة واتخذتها أصلًا من جملة الأصول التي هي مصادر الشعر... وقد حاولت ما وسعني أن أحرر نسخة صحيحة مضبوطة من شعر العباس... فثبت ما اتفقت عليه المصادر، وفضلت رواية القديم منها، إلَّا أن تكون مخطوءة وبينت الخلاف أو الخطأ أو التصحيف والتحريف.»
- ثمَّ هو يتساءل عن الثمانية عشرة كتابًا التي روت البيت بصورته الطبيعية «أبا خراشة إمَّا كنت ذا نفرٍ»، ذاكرًا أنه لم يجد قول المحقق؟
- أحيله إلى الديوان نفسه، ص106، كما وثقته من قبل في المساق الزوبعة، وتحديدًا إلى حاشية تخريج البيت، ثمَّ ليَعُدَّ الكتب، كما عددناها. ذلك أن المحقق، بعد أن اختار رواية «إمَّا كنت ذا نفر»، وفق ما ذكر من منهجه في الترجيح، أورد اثنين وعشرين مرجعًا للبيت من كتب التراث، لم يستثن مما أشار إليه منها سوى أربعة، روته «أمَّا أنت...»، فالبقية ثمانية عشر مرجعًا. وليس بجائز في التحقيق العلمي أن يذكر المحقق تلك الأربعة على سبيل التمثيل فقط. فعلام استند، إذن، في ترجيحه الرواية التي اختار؟ قطعًا ليس بيني وبين (يحيى الجبوري، رحمه الله) اتفاق على ذلك، لنغيظ النحاة! والعهدة عليه في عدتها، على كل حال. غير أن ما أنا متأكد منه هنا يكفي لترجيح رواية البيت غير الإشكالية. فنحن ببحث سريع نجد ممن رواه «إمَّا كنت ذا نفرٍ»: الخليل، «معجم العين»؛ ابن قتيبة، «الشعر والشعراء»؛ الجاحظ، «الحيوان»؛ ابن دريد، «الاشتقاق»، ابن دريد، «الجمهرة»؛ ابن سيده، «المحكم والمحيط الأعظم»؛ الخالديان، «الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين»؛ الفارابي، «ديوان الأدب»؛ البلاذري، «أنساب الأشراف»؛ رواية في كتاب البغدادي، «خزانة الأدب»؛ ابن منظور، «لسان العرب»، (خرش)؛ الزبيدي، «تاج العروس»، (خرش).
وأمَّا أسلوب التكثر بالكتب النحوية، التي أخذت برواية سيبويه طبعًا، فقد أشرتُ إلى أنهم إنما يتوارثون الشواهد ويتناقلونها كابرًا عن كابر، ويكررونها أبًا عن جد، منذ إمامهم سيبويه! فبالتأكيد، والحالة هذه، سيزداد عدد الكتب التي تجتر رواية سيبويه- بل سيستمر رصيدها في الازدياد، على افتراض أهمية العدد في ذاته هاهنا- لكنها في النهاية ككتابٍ واحد، هو «الكتاب» لسيبويه.
- غير أنه قد أفحمك في اعتراضه على استشهادك بأن (الخليل بن أحمد) قد أورد البيت كما هو في ديوان الشاعر، لا برواية تلميذه سيبويه.
- كيف؟
- هو يشكك أصلًا في نسبة معجم «العَين» إلى (الخليل).
- قلتُ لك: لو بُعث العباس بن مرداس السُّلَميُّ لأنكروا روايته لبيته، واحتجُّوا عليه بما ورد في كتاب سيبويه! التشكيك في نسبة كتاب «العَين» إلى الخليل بن أحمد، كلام قديم معروف ومكرور، لا يقوم على تحقيق ولا على إنصاف، تولَّى كبره الأول (أبو منصور الهروي الخراساني، المشهور بالأزهري، -370هـ)، الذي لا يُخفِي تنقُّصه الشخصي للخليل، مع نقله عن معجمه، وانتخاله إيَّاه في «تهذيبه»، واتكائه على جهوده مع نكرانها، إلى درجة الانتهاب والانتحال، مسميًا الخليل: تارةً (الليث)، وتارةً (ابن المظفَّر)، وتارةً يقول عنه: «رجل من الأزد من فراهيد»!(2) وقد أشرتُ إلى ما كان بين هؤلاء الأعلام من إحن ومنافسات وتعصبات، كسائر البشر، فلم يكونوا ملائكة ولا معصومين، كما يحاول عشاقهم أن يصوروهم. ثمَّ خلفَ من بعد الأزهري خَلْفٌ تابعوه في دعواه، من عرب ومستشرقين، ووسعوها.
- والله أنا حائر بينكما، مرةً تشكك أنت وتعيب عليهم ثقتهم، ومرة يشككون هم ويعيبون عليك ثقتك!
- المفارقة هنا أن نجد التشكيك في نسبة معجم كامل إلى صاحبه، مع الإلقاء عرض الحائط بما جاء عن بعض متقدمي اللغويين والمعجميين من نسبة «العين» إلى الخليل؛ وفي مقابل هذا يقف المشككون أنفسُهم كالطود، واثقين كل الثقة، من رواية بيت يتيم، مشتبه في روايته، مقيمين الدنيا من أجلها؛ لا لشيء سوى أنها جاءت في كتاب إمام الأئمة (سيبويه) وفيها شاهد لا يُعوَّض لمسألتهم النحوية.
- ولا تنس أن قد بنى عليها النحاة تراثًا من جدال طويل، لا يُستهان به!
- لم أنس ذلك. نعم، هو جدال طويل، كليل العاشقين، لا ينتهي إلَّا لكي يبدأ! ومهما يكن من أمر، فلنسلِّم جدلًا أن معجم «العين» من وضع (الليث بن المظفَّر)، صاحب (الخليل)، فذلك لا ينفي عنه قيمته العلمية، وما وردَ فيه من رواية قد تظافرت به الروايات عن غيره. إلَّا أن تأخذ بتلابيبنا مناهج انتقائية ضيقة.
- أمَّا أنا، فسآخذ بتلابيب العباس، لنحتكم إلى قبيلة بني سُلَيم لحلِّ ما شجر بيننا من خلاف قبل أن يُخلق النحو وأهله. بارئين إلى الله تعالى من خلافكمُ جميعًا! ربنا لا تؤاخذنا!
- قبل أن تأخذ بتلابيب العباس، أبلغ سلامي وتقديري صاحبك، واشكره على فتح هذا النقاش. وأكِّد له مجدَّدًا أن «الإمام» سينام قرير العين في تُربته، ولن يقضَّ مضجعه ما دار حول مسألته المثيرة للجدل.
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
() الجُمَحي (-231هـ)، (1982)، طبقات الشعراء، تح. جوزف هل، (بيروت: دار الكُتُب العلميّة)، 34.
(2) انظر حول صنيع (الأزهري) مع (الخليل)، مثلًا: المخزومي، مهدي؛ السامرائي، إبراهيم، (1980- 1985)، مقدمة «كتاب العين» لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، (العِراق: وزارة الثقافة والإعلام)، 1: 19- 27.