القراءة في السير الذاتية تؤدي إلى غرضين بنفس الوقت، فمن خلال تلك السيرة سيتعرض القارئ إلى مجموعة من المعارف والمعلومات التي كانت من اهتمام صاحب السيرة. والغرض الآخر هو جانب تحفيزي من خلال التعرف على الصعوبات ولحظات الصعود والنزول التي مرت عليه، حتى وصل إلى مرحلة استحق فيها أن تكتب ثم تقرأ سيرته. وعلى غرار تحويل الروايات إلى مسلسلات أو أفلام يمكن متابعتها، كذلك تحولت بعض السير الذاتية إلى مسلسلات أو أفلام لتصل إلى مساحة أكبر من المتابعين. حتى أن من قرأ السيرة على الورق، قد يرغب أن يراها تمثل أمامه عبر الشخوص والأماكن والحقبة الزمنية التي كان عاش فيها صاحب السيرة. أحد السير المتميزة التي تحولت إلى فيلم سينمائي هي سيرة عائلة كوري الذي فاز منهم أربعة أشخاص بجوائز نوبل في الكيمياء والفيزياء. حيث حصلت ماري كوي البولندية المنشأ والفرنسية الجنسية مع زوجها بيير كوري على جائزة نوبل في الفيزياء لاكتشافهما عنصري الراديوم والبولونيوم. ثم حصلت لوحدها بعد وفاة زوجها على جائزة نوبل في الكيمياء. وبعد ذلك بسنوات اقتسمت ابنتها إيرين جوليو-كوري وزوج ابنتها فردريك جوليو-كوري جائزة نوبل في الكيمياء كذلك. وقد شدني هذا الفيلم بشكل خاص، لعلاقة أبطاله بتخصص علم المواد الذي أنتمي إليه كتخصص بحثي. وقد تم تجسيد العمل الجاد والصعوبات التي واجهها أصحاب السيرة، بشكل دقيق حتى لكأنك أمام علماء حقيقيين متخصصين في الكيمياء، وذلك حينما يناقش من جسد تلك الشخوص آراءهم وطروحاتهم في العمل.
وعلى نفس السياق تم تصوير عالم الرياضيات والاقتصاد جون ناش، الفائز كذلك بجائزة نوبل للاقتصاد في فيلم (عقل جميل).
الفلكي الكويتي صالح العجيري حفظه الله من الأسماء الرائدة في وطننا العربي في علم الفلك بشقيه المتوارث من الأجداد وكذلك المبني على العلوم الحديثة. وهذه السنة يدخل العجيري نادي المائة عام أطال الله في عمره على طاعته. ولم يُفوت الكويتيون هذه الفرصة فقدموا مسلسلاً من ثلاثين حلقة تتعرض لسيرة هذا العالم ليكون لهم السبق في تصوير وعرض سيرة ذاتية لعالم لا يزال على قيد الحياة. وقد شجع على ذلك نجاح (رحى الأيام) الذي تم عرضه في العام الماضي لإحدى السير الذاتية لواحد من أبناء الكويت ممن شارك في نهضتها وأسهم في تطورها بعد أن رحل إليها طفلا من إحدى مدن القصيم عبر قوافل العقيلات.
المسلسل أو الفيلم الذي يتعرض لسيرة ذاتية لأحد الناجحين لا يقدم فقط قدوة جيدة لمن يتابعه، ولكنه يحوي الكثير من جوانب الجذب التي تجعل مثل هذا العمل ناجحا من ناحية عدد المشاهدات. جوانب الجذب في سيرة حمد الجاسر أو عبد الله بن خميس رحمهما الله ستجمع الكثير لمتابعة مثل هذه الأعمال التي لا تقدم خيالات قد لا يدركها أبناء الجيل الحالي بل تقدم حقائق وخيوط درامية نسجت من قصة حقيقية، تخفف عليه من حالات جلد الذات التي تمارس عليه الآن من خلال رؤى بعيدة عن الواقع.
كذلك يعيش بيننا الآن من يستحق أن تكتب أسماؤهم بماء الذهب ويستحق أن تقدم سيرته الذاتية إلى أبنائنا بصورة زاهية نعرض فيها شيئاً من إنجازات هذا الوطن لنا وللآخرين من خلال أبنائه المكافحين ممن وصلوا إلى أعلى مراتب النجاح. وكما ذكرت ممن توفاهم الله أنموذجين يستحقان أن ترى سيرتهم الذاتية النور على شاشتنا وغيرهم كثير. فكذلك هنالك ممن يعيشون بيننا الآن من يستحق أن تصل سيرته إلى كل بيت. وهنا أعرض أحد الأمثلة، التي لدينا منها الكثير. النموذج الأول هو البروفيسور علي الدفّاع أو كما يحلو لطلابه أن يلقبوه بملك التكامل. عرفت الدفّاع من خلال زياراته المتكررة للعم محمد بن علي العبودي رحمه الله، ثم عرفته أكثر خلال دراستي للدكتوراه في جامعة الملك فهد. كذلك من خلال حضوره للاجتماع السنوي لأبناء محافظة المذنب في المنطقة الشرقية، فقد كان الجميع ينصت لطروحاته بشغف حيث كان أغلب المجتمعين من طلاب الجامعة أو من خريجيها. وكان حديثه لهم كالبلسم الذي يزيل صعوبات الدراسة والبعد عن الأهل. وحينما أخبرته أنني حصلت على الماجستير من جامعة أوهايو، بدأ يصف لي شوارعها ويذكر مبانيها بالاسم وكأنه بالأمس كان هناك. كان يروي لنا علاقته مع والدته رحمها الله وتشجيعها له، ثم يعرج على تفضيله لدراسة الرياضيات على الطب حينما تم ابتعاثه، ولقاؤه كذلك مع الملك سعود رحمه الله كأحد أوائل المبتعثين للولايات المتحدة. وقبل ذلك حينما تم اختياره ليلقي قصيدة أمام الملك سعود رحمه الله أثناء الزيارة الملكية لمحافظة عنيزة. ولا تخلو أحاديث الدفّاع من المُلح والطرف مثل قصة أحد تلاميذه الذي أصبح فيما بعد زميله، حينما كان بين خيارين إما يعطيه درجة ممتاز في المقرر بسبب إجاباته المتميزة في الاختبار، أو يعطيه درجة راسب بسبب كثرة غيابه عن المحاضرات. فكان أن اختار القرار الأول. وإن كانت جهود الدفّاع وأبحاثه في علم الرياضيات متميزة، فقد كانت كتبه التي وثقت جهود العلماء المسلمين في علم الرياضيات خاصة وفي العلوم الأخرى متفردة حتى تسابقت دور النشر العالمية لطباعتها مثل روتليج وكذلك جون وايلي.
وإذا كان للبروفيسور علي الدفّاع الدور الكبير في تقديم إسهام العلماء المسلمين في الرياضيات والعلوم الأخرى للعالم، فهناك من أسهم في تقديم العمارة الإسلامية والعربية كذلك إلى العالم. أعني بذلك، خريج جامعتي هارفارد وMIT ومؤلف كتاب المدينة العربية الإسلامية الذي يعد أحد المراجع المهمة في هذا المجال البروفيسور صالح الهذلول. عرفته أول مرة عندما تلقيت منه اتصالا حينما كنت وكيلا لكلية العمارة بجامعة القصيم. وقد عرفني بنفسه: معك صالح الهذلول هل تعرفني؟ وحينما أجبت بالنفي، كان رده علي وبكل ثقة: إذاً أنت لست معمارياً! هذه الثقة جعلتني أبحث وأسأل من يكون صالح الهذلول. بعد ذلك عرفت أنني حتى لو لم أكن معماريا فليس لي الحق أن أجهل ذلك العَلَم. وبعد ذلك، تعرفت عليه عن قرب من خلال الملتقيات المتكررة التي تعقد في كليات العمارة في الجامعات السعودية. بالإضافة إلى كتبه وأبحاثه المنشورة فإن رسائل الماجستير والدكتوراه التي أجريت تحت إشرافه تمثل كنزا وإرثا يجدر بنا رعايته. وحينما نرجع للخلف قليلا، حينما لم يكن مهنة التدريس في المدرسة السعودية الابتدائية بالبدائع منتهى طموح ذلك الشاب الهذلول، فسعى وطور من نفسه وتسلح بالجد والاجتهاد بعد توكله على ربه، حتى أصبح علَماً يشار له بالبنان، فتنقل في عمله بين كلية العمارة بجامعة الملك سعود، ووكالة وزارة الشؤون البلدية والقروية وغير ذلك من المناصب الإدارية والاستشارية. كذلك شارك في تحكيم عدد من المسابقات المعمارية التي على رأسها جائزة آغا خان الدولية.
مثالان تطرقت لها ممن رحلوا ومثلهما ممن هم على قيد الحياة، قدما لنا الكثير من الإنجازات العلمية والفكرية ويستحق كل منهم أن تقدم سيرة حياته لنا ولأبنائنا وللأجيال من بعدنا سواء في سلسلة مكتوبة أو في سلسلة درامية كما حدث ذلك مع ماري كوري عالميا ونزار قباني عربيا وصالح العجيري خليجيا. ولنا أمل في دعم وزارتي الثقافة والإعلام لمثل هذه الأعمال.
** **
ا.د. عبد العزيز سليمان العبودي - جامعة القصيم