تأخذنا المراجعة الحضاريّة لمفهوم ما بعد الكولونياليّة إلى فتح غير متناه لدلالاته المختلفة على الزمان؛ ومن ثمّ نزع القدسيّة عنه؛ لأن ارتباط دلالة المفهوم بمرحلة تاريخيّة بعينها، أومكان بعينه، يُخرجه من حركة التاريخ ويرمي به في دائرة التقديس المنغلقة. فالمراجعات النقديّة للمفاهيم في سياق حضاري يمكن أن تحتفظ للمفهوم بالتنوّع الدلالي والثراء المعرفي، وإبراز قدرته، أودوره في تطوّر معنى الأشياء؛ ومن ثمّ استيعاب أسئلة الفكر الكوني والإسهام في إعادة صياغته. لقد أن أوضحنا في كتابنا الانتخاب اللّساني أن حركة تشكّل المفهوم في النقد الحضاري تتكوّن عبر عمليّات ذهنيّة ومعرفيّة هي: التجاوز، والرفض، والمساءلة.
العمليّة الأولى: التجاوز: ويقصد به خروج الفكر من دوائره النسقيّة والإيديولوجيّة الضيّقة؛ حيث تفرض هذه الدوائر وصايتها على العقل، فيغدو تابعًا غير مستقل في إنتاجه الفكري، عندما يفقد العقل استقلاليته؛ ومن ثمّ خصوصيته فيصير مسلوب الإرادة في علاقته بالأشياء. عندئذٍ يدرك العقل أنّه لا سبيل إلى الخروج من هذه الدائرة إلا بتجاوز هذا النظام القامع للفكر، والمؤطِّر للعقل، وفي هذه الممارسة يقع العقل في مأزق التوتّر والقلق بمعناهما المعرفيين، بين الرغبة في حرّيته الكاملة في الانفصال عن هذا النظام، وارتباطه بالمشترك النسقي الذي يُسلبه جزءًا كبيرًا من حرّيته ويجعله تابعًا ومقلِّدًا. فيلجأ الوعي إلى فكرة التجاوز، أي مجاوزة حدود المنطق السائد إلى آفاق أوسع؛ لإدراك مختلف للوجود بكسر المعيار؛ ومن ثمّ التأسيس لوجود جديد بواسطة المفاهيم. فهي مسكن الفكر، ومأوى العابر، مما يجعله قادرًا على الإضافة والإنجاز، ومشاركة الفكر الكوني في الكشف عن حقائق جديدة بوعي جديد.
إن تأمّل حركة المفاهيم تجاه معطيات الوجود وإعادة تشكّله في سياق جديد، تكشف عن البُعد الحضاري للمفاهيم ودورها في تشكّل الوعي بقضايا الوجود، وهذا البُعد ذو طابع إشكالي؛ لأن الوعي وهو ينتج المفهوم الجديد، يقوم بممارستين عقليتين:
الأولى، الفهم والاستنتاج، نقصد بالفهم، فهم الوجود الموجود عن طريق تحليله ومعرفة إيجابيّاته وسلبيّاته. أما الاستنتاج فنقصد به استنتاج وجود جديد يسعى إليه الوعي، وفي هذا السياق يلجأ الوعي إلى تغيير دلالات المفاهيم، أواستبدالها بمفاهيم جديدة مسكونة بالأسئلة المنفتحة على آفاق حضاريّة تعمل في اتجاه صيرورات جديدة للوجود، وبهذا التصوّر يكون المفهوم في الخطاب، حافزًا لإرادة الوعي. فالوجود الجديد يمرّره الوعي إلى الواقع بواسطة المفاهيم، فهي القادرة على تغيير الواقع، وتشكيل واقع جديد، وسرعان ما يهرب هذا الواقع عن طريق وعي مختلف به، إلى واقع مختلف بمفاهيم مختلفة، مما يجعل البُعد الحضاري لمفاهيم الخطاب في حالة سيرورة دائمة؛ وذلك من أجل إنتاج عوالم أخرى؛ ولذا فإن دراسة العلاقة بين الحضارة والمفهوم ضروريّة؛ لبحث نشاط الوعي من ناحية، وإدراك دور الخطاب في تشكيل جديد للوجود، من ناحية أخرى.
العمليّة الثانية: المساءلة: وهي ممارسة عقليّة تهدف إلى كشف الزيف، واستجلاء حقائق الوجود. تتمثّل القيمة الحضاريّة للمساءلات في نفي الحقيقة المطلقة عن الأشياء، وترسيخ التعدديّة والاختلاف.
يخوض الوعي الإنساني غمار المساءلة لحظة تشكّل المفهوم؛ فيستشرف وجودًا جديدًا، ويستبصر حقائق جديدة، ثم ينتخب مفاهيمه الخاصة، أو يطوّر المفاهيم السابقة؛ لإدراك هذا الوجود؛ ولذا فإن اللحظات التي يتشكّل فيها المفهوم داخل الوعي لا تخلو من مساءلة حقائق الوجود السائد.
لا تبحث النزعة الحضاريّة للسؤال في التجاوز وصولاً إلى اليقين فحسب بل تُسائل أيضًا الدلالات المطلقة للمفاهيم، وتفككها على النحو الذي يؤهّل السؤال لتأسيس مشروع جديد للوجود، فالسؤال يستبدل المعارف المطلقة بالمعارف الظنيّة؛ لأن المعارف الظنيّة تمتلك القدرة على خلخلة المعهود. وكذا يقرأ السؤال المجاهل الساكنة في المسكوت عنه، وهنا يظهر أثر النزوع الحضاري في إنتاج مفاهيم تقاوم الفكر الأحادي، وأخرى تؤسّس للتعدديّة والتنوّع والاختلاف؛ ومن ثمّ يحضر المفهوم في الخطاب حاملاً لرؤى الوعي المتعالي عن الأشياء، وكاشفًا عن نزعات حضاريّة جديدة تخترق المجهول؛ لتشييد معماريّة جديدة للفكر، تراجع تحديداته التقليديّة وأطره المعياريّة في ضوء صيرورة الفكر وحركته المتطوّرة.
وبناءً على ما سبق يمكننا القول: إن القيمة الحضاريّة للمفهوم تتمثّل في استجابته للوعي، وقدرته على الانفتاح على العالم في الوقت نفسه، ما يؤسِّس لعلاقة خاصة، متحرّرة من إكراهات النسق، بين الوعي والوجود؛ حيث يكشف المفهوم عن آليّات الإدراك الإنساني، والتأسيس الأنطولوجي لهذه المفاهيم. فنحن في حاجة إلى المفاهيم لاكتشاف الوجود، وإعادة إنتاجه في صوره المتعالية، فهي التي تحدّد علاقة الذّات بالعالم، قبولاً بهذا العالم، أو رفضًا وتصحيحًا له في الوقت نفسه.
وعلى هذا تتمثّل الوظيفة الحضاريّة للمفهوم في قدرته على استيعاب مختلف للوجود وتمثيله في صورة حضاريّة؛ حيث يعمل المفهوم بوصفه وسيطًا بين الوعي والعالم، مدركًا له وصانعًا له في الوقت نفسه. كما تكشف صيرورته عن قدرة الوعي على إعادة اكتشاف الوجود حسب خبرته الجماليّة، مما يُضفي طابعًا حضاريًّا على حركة المفهوم.
إن اكتشاف البُعد الحضاري لمفاهيم الخطاب، من شأنه إثارة أسئلة ذات طابع حضاري، يمكن طرحها أمام جميع الظواهر التي دخلت مجال الخطاب، وليس الهدف من الإجابة عن هذه الأسئلة، هو الوصول إلى قاعدة عامة يمكن الاقتداء بها في تحليل ظواهر الخطاب فحسب، وإنما أيضًا الكشف عن الأسباب والدوافع التي أسهمت في حضور هذه الظواهر ودورها في التعبير عن قضايا تنويريّة أو رجعية في الخطاب.
** **
أ.د. عبد الفتاح يوسف - جامعة البحرين
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com