قد تجد فروقاً بيولوجية بسيطة بين الإنسان والحيوان، ولكن هذه الفروق لا تمنحك القدرة على تمييز الإنسان عن الحيوان إذا ما أردت وضع تعريف! فمقولة «الإنسان حيوان ناطق» قد تعداها الزمن منذ أمد بعيد. أما من يصر على هذا التعريف ويقحمه قسراً في أذهان أولادنا والمناهج التعليمية؛ فهو إما جاهل؛ وهذا أبعد الاحتمالات؛ وإما «قاصداً» تشويه معنى الإنسانية وهذا أقربها.
أن تقول إن الإنسان «حيوان»؛ «ناطق»؛ فأنت هنا قد أعطيت صفة الحيوانية للإنسان؛ ولم تستطع تمييزه بالنطق! فالحيوانات لها «نطقها» أي «لغتها» أيضاً!
بيد أن «اللغة» الإنسانية ليست كلغة الحيوانات! فقد «كانت» أصواتاً شبيهة بأصوات الحيوانات؛ بل مقلّدة لها؛ أي أن «الإنسان» استطاع «توظيف» أصوات الطبيعة وكائناتها من أجل شيء صنعه هو، ولم يستطع أي كائن آخر صناعته وهو «المجتمع». والمجتمع يحتاج إلى تواصل بين أفراده؛ ليس كالحيوانات؛ من أجل الأكل والشرب والحماية وحسب؛ إنما للحفاظ على هذا الكنز الذي صنعه؛ والذي اسمه «مجتمع»! والذي يتطلب «عملاً»؛ «جماعياً»؛ لـ «غذاء» أوفر؛ و»حماية» أكثر فاعلية! أي نشأ لديه شيء لم تعرفه الكائنات الأخرى، أي «الوعي». وإذا كان الوعي هو نتاج العمل الجماعي؛ أي «المجتمع»؛ فهل للوعي تأثير عكسي على المجتمع؛ أم أنه نتيجة وحسب؟ وما هو الوعي بالأساس؟ ولماذا يشكل الفارق بين الإنسان وبقية الكائنات؟
الوعي: هو محصلة الاندماج بين «المعرفة العقلية» و»الحاجة الروحية»! فـ «التوظيف العقلي» للأصوات؛ جعل الإنسان يلبي «جزءاً» من «حاجته الروحية»؛ ولم يعد هذا التوظيف قادراً على مسايرة حاجات المجتمع الروحية المتنامية؛ فتحولت الأصوات إلى «حروف»؛ أي بترتيب حرفين أو أكثر؛ تصبح «كلمة»؛ ثم بترتيب كلمتين أو أكثر؛ يصبح لدينا جملة! وكل ذلك يوسع شيئاً «عقلياً» اسمه «مفهوم»؛ وتحديد المفاهيم يعطينا مصطلحاً؛ وترتيب المصطلحات والمفاهيم يعطينا فكراً؛ والمحصلة هي أن الحاجة الروحية توصلنا لـ «المعرفة» العقلية؛ وهما بتفاعلهما المستمر والمتطور؛ في إطار العمل الجماعي والوعي المتنامي؛ يلبيان سمو ورقي المجتمع؛ الذي لا يمكنه أن يوجد بدون ذلك التطور!
الوعي إذن؛ مستمد من الجتمع؛ وهو الذي يميز «الإنسان» عن سائر الكائنات؛ وهو ليس ثابتا؛ ولا يمكنه أن يكون؛ ويعتمل بداخله مكونان أساسيان؛ هما الروح والعقل؛ وهما مندمجان؛ ولا سبيل لفصلهما إلا «للتبسيط المعرفي»؛ وإذا كان التبسيط ضرورياُ؛ كتقسيم التعليم إلى علمي وأدبي؛ والتحاق الآلاف من الطلبة بهذا القسم أو ذاك؛ فالأمر لا يتعدى «التخصص» من أجل معرفة أكثر عطاءً؛ فلا يوجد أديب بدون عقل؛ ولا عالم بدون روح!
الفارق الملحوظ بين العلم والروح هو «سرعة التطور»! فالعلم أسرع تطوراً بما لا يقاس من التطور الروحي. ومن المفترض أن تكون السرعة متماثلة أو متقاربة على الأقل. فالتطور العلمي ذاته يحتاج إلى رقي روحي لمواكبته! وهنا بالذات يأتي دور «الفن»! فالمطلوب من الفنان أن يرتقي بالذائقة الاجتماعية «كلها» لمواكبة العصر. وهذا نادراً ما يحدث!
وعلى الرغم من أن الفلسفة تشير بقطعية؛ بوحدة «الفردي» و»الاجتماعي»؛ وعدم جواز الفصل بينهما؛ إلا أن الواقع العملي؛ يشير إلى «مصالح» فردية وعامة؛ تكرس مبدأ العصا والجزرة؛ وتبعد الفن والفنان قسراً؛ عن دورهما الأساسي في التطور الاجتماعي؛ أي السمو الروحي. ولا أريد أن أخوض في «الفردية» وأبعادها؛ فالحديث يطول. إنما أريد أن أتناول دور القطاع العام في هذا الشأن.
مهمة الفن كوعي اجتماعي بالدرجة الأولى مسنود للقطاع العام. وبالتالي تشجيع ودعم هذه المدرسة الفنية أو تلك ليست مهمة الفنان كفرد. ففي ظل تلاطم المدارس الفنية حسب المصلحة «الفردية أو الاجتماعية»، يصبح أمام الفنان خياران: إما أن يكون فردياً ويغتني، أو أن يكون جماعياً أو اجتماعياً وهو فدائي في هذه الحالة.
** **
- د. عادل العلي