د.محمد بن عبدالرحمن البشر
شهر رمضان شهر الخير والعطاء، والصلاة والقراءة والدعاء، والأمل والرجاء، تتجلى صور الإيمان في عبادة الديان، والتقرب إلى الرحمن، والمرء هنا بين الخوف والرجاء يتلمس السبل التي تقربه إلى الله، وبتلمس أوقات الاستجابة، وفي هذا الشهر تتجلى النفوس الخيرة، بالبذل والإحسان، والإحسان لا يكون بالمال فقط، لكن ذلك يتعداه إلى الأخلاق الحميدة، من التسامح، والعفو، والتواضع، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، وقول الحق، وترك أعراض الناس، والبعد عن المحرمات، وغيرها كثير.
والإنسان في هذا الشهر يتحرى ليلة القدر، لعل الله يكتب له فيها أجراً كثيراً، قال الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
هذه الليلة العظيمة التي تقع في هذا الشهر الكريم، الذي يكون فيه المسلم صائماً منقطعاً عن الأكل والشرب، والمعاشرة، طاعةً لله وامتثالاً لأوامره، يسعى جاهداً أن يكون أكثر مثالية في سلوكه وقوله وفعله.
ذات ليلة سألت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر زوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عما يقول إذا علم أي ليلة القدر، فقال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعفُ عني» فليس هناك أعظم فضلاً من عفو الله عن المسلم، فمع العفو يكون خير الدنيا والآخرة، فتسقط الذنوب وتسعد القلوب، وتستر العيوب، وعفو الله دلالة على رضاه، وليس بعد رضى الله حاجة للمرء.
من أعظم الدعاء، دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان يقول: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل» رواه مسلم.
هذه من خصال المسلم، المحبة والوفاء، والعطاء، فمن دلالات المحبة، الدعاء لمن تحب بظهر الغيب، فهو لا يسمع ما تقول، وأنت رافع يدك إلى السماء تدعو الله لأخيك، وهو لا يسمعك بعيداً عن الرياء والتقرب، وهذا علامة من علامات الوفاء، فالوفي يتلمس كل خير لصاحبه والدعاء خير كله، وهو بهذا الدعاء يعطيه ويهديه أعظم هدية، فلعل دعوة مستجابة تجد لها باباً مفتوحاً، فتنفتح لأخيك أبواباً مغلقة، وتوسع دروباً ضيقة.
وفي صحيح الجامع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر»، ولا أظن والداً إلاّ ويدعو لولده، ولا يتمنى أحداً خيراً منه سوى ابنه، واليوم ونحن صائمون نرجو من الله القبول، ونعيم الدنيا والآخرة، وأن ييسر أمورنا، ويشرح صدورنا، وينور قلوبنا، وأن يرفع عنا البلاء، والوباء وأن يرحم العباد، وأن يوفقنا للسداد.
ومنَّا من جمع الصيام بالسفر، مثل أولئك المعتمرين الذين منَّ الله عليهم ويسَّر لهم القدوم إلى بيت الله الحرام، راجين ما عند الله، منيبين إليه طائفين، قادمين رجاء لما عنده.
ودعوة ذو النون وهو في بطن الحوت: «لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» من أعظم الدعوات، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط، إلاّ استجاب الله له» أخرجه الترمذي، وأحمد والحاكم.
إن لنا في ذلك الدعاء العظيم الذي ناجى به ذو النون ربه عبرة وتأمل وأمل، فهو وهو في جوف الحوت يعترف لربه أنه قد أخطأ، لأنه يعلن يقيناً أن الله عفو يحب العفو، ولا شك أن اعترافه ذلك سيفتح له باب العفو، ومع العفو تفتح الأبواب ومنها فم الحوت، الذي أطبق عليه، فقد أمر الله الحوت ففتح فمه ليخرج يونس عليه السلام، ويعود إلى الحياة، لأنه لم ينسَ ربه وهو في أعظم موقف، وهذا أيضاً دلالة على قوة الإيمان وعدم القنوط واليأس من رحمة الله، وهذه من أجل المنح التي حبى الله بها المؤمنين، وهو عدم اليأس من عطاء الله ومنه وكرمه، لهذا فإن المؤمن يكون دائماً واثقاً من رحمة الله وكرمه، لا يحيد عن ذلك مهما كان الحدث جللاً.
ولننظر إلى دعاء أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، وأيوب وهو في حالة الضعف يظهر الافتقار إلى الله، ويتوجه إليه بالشكوى في حالة ضعفه، وبعد أن ضاقت عليه السبل، وإذا بربه يستجيب ويعطيه ما سأله، وأكثر من ذلك، رحمة من الله لعبده أيوب، وذكرى للعابدين، الذين يطرقون باب الرحمن، ذلك الباب الواسع لمن توجه بالدعاء إليه صادقاً مخلصاً، واثقاً من الاستجابة لإيمانه بربه.
صورة أخرى من صور الدعاء عند الحاجة، تلك التي أطلقها زكريا، إذ قال صادقاً مخلصاً، مناجياً ربه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}، هكذا كان دعاؤه، فاستجاب له ربه ووهب له يحيى.
الدعاء هو العبادة، ومن مظاهر الطاعة، فما أجمل أن تدعو، وندعو، وندعو، ولا نتوقف عن الدعاء ليقيننا أن الله سبحانه وتعالى قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه.