نشهدُ طفرة أدبية هائلة، في مواقع التواصل الاجتماعي؛ ما أدى إلى انعكاس سلبي في بعض الأحيان على الساحة الأدبية؛ وبخاصةٍ في جانب الشعر، وما أكثر الشعراء الموجودين في الساحة الآن!
ولئلّا يفهمني القارئ فهماً خاطئاً أؤكد أن الهدف من هذه المقالة ليس الحد من كثرة الشعراء، أو الدعوة إلى الانصراف عن كتابة الشعر، ولكن الهدف هو الاهتمام بجودة الأبيات والقصائد التي يكتبونها وتنتقل سريعاً بفضل مواقع التواصل.
من وجهة نظري أن المتسبب في قلة الشعر الجيد هو عامل الاستعجال وقتل موهبة الشعر في مهدها، من خلال أن المحب للشعر وصاحب الموهبة «يتهيض» ببيتين ثم يكتبهما وينشرهما في مواقع التواصل من دون مراجعتهما أو التأني والنظر فيهما وكتابتهما بصياغة أخرى.
يصل البيتان إلى المتلقين الذين يقابلونه بالمجاملة، وكعادة مواقع التواصل فإن طابع المجاملة غالب عليها، من مثل: «صح لسانك، أحسنت يا شاعرنا، ...» وبهذه العبارات نقضي على موهبة الشاعر في مهدها. فتُقتل الموهبة بأمرين: الأول استعجال الموهوب في النشر، والثاني منحُنا إياه لقب «الشاعر» وصنعُنا داخله وهماً أنه يستحق هذا اللقب باقتدار. وهنا يتوقف هذا الموهوب عند «البدايات»، وكل ما سيتلوها فيما بعد من أبيات ستكون ركيكة ولا تتعدى مرحلة المبتدئ. فتجاهل تطوير نفسه والاطلاع على تجارب الشعراء القدماء وتجارب الآخرين، واكتفى بعناء وتردد بداية أول بيتين ينشرهما، ثم دخل الزهو نفسه فأصبح شاعراً مع وقف التنفيذ!
فعلى الموهوب شعرياً ألا ينخدع بجاذبية عبارات المدح بعد نشره لأبياته. الشعر يحتاج إلى كثير من التأني حتى يحكم أبياته، لا يبحث عن عبارات المدح المعتادة، بل عليه البحث عن إحداث الدهشة التي لن تحدث إلا من خلال التأثير في الآخرين، ولن تؤثر إلا من خلال قوة المعنى، والابتكار، وصدق العاطفة وقوتها، والصورة الشعرية التي اعتمدت عليها. وكذلك فإن المفردات مهمة جداً جداً، فليس من المعقول أن ترثي إنساناً ما وتكون ألفاظك الشعرية حماسية وميالةً إلى مدح المتوفى، فهنا تحتاج إلى ألفاظ تدل على الحزن الذي خلّفه الفقد في نفسك ونفوس أحبابه. عندما يرثي الشاعر شخصاً متوفى وتأتي معظم ألفاظه مدحاً وحماسةً فمن الطبيعي أن من يفهم الشعر بعمق يعلم أن هذا الشاعر إما أنه حديث التجربة وغير متمكن شعرياً، وإما أن دافعه إلى كتابة هذه المرثية مصطنع غير حقيقي، وبهذا تتكشف سطحيته من خلال عاطفته المزعومة، فمن الطبيعي أن تكون العاطفة هنا ضعيفة.
في الشعر أمور كثيرة لا بد أن يراعيها الشاعر، على سبيل المثال متى يستخدم هذا اللفظ مكان الآخر؟
كيف يهتم بالإيقاعات والموسيقى الداخلية للأبيات؟
كيف له أن يختار القافية والوزن الشعري الذي يلائم الغرض الذي كتب فيه.
الشعر شيء خارق وخارج عن المألوف، ولا يقوله أي إنسان، والشاعر يمتلك قدرة عقلية ولغوية وخيالية فذة، ولا يصل الشاعر إلى التمكن إلا عندما يلم بكل شيء في هذا الفن المتسامي، فمن السهل على الشاعر أن ينظم الكلام، لكن من الصعب جداً أن يخلق الدهشة عند المتلقي وأن يؤثر فيه. في عصرنا أصبح لا يحفظ أبيات الشاعر إلا الشاعر نفسه؛ والسبب أن قصيدته لم تحدث التأثير القوي وتهز عمق المتلقي حتى تأسره ويحفظها أو يعود إليها أكثر من مرة بحكم صياغتها الجيدة.
إذا أراد الموهوب أن يكتب شعراً جيداً فعليه أن يركد ولا يستعجل، ويراجع أبياته، ويعيد صياغتها، وقبل ذلك يطلع كثيراً على تجارب الآخرين، ولا يركن إلى الإشادة العابرة التي تأتي على سبيل المجاملة.