د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
تسمُ بعضَ السير الذاتية حديَّةُ المقارنة بين تطرفين؛ عصاميةٍ مفرطةٍ في البداية وتفوقٍ مبالغٍ في النهاية، وهي نتاجُ مرحلةٍ زمنيةٍ يعيها من وُلدوا قبل ثمانية عقود ومن جايلهم ومن سبقهم؛ فقد عاشوا حياة الشظف والعَوز والاغتراب والمعاناة، وهي نفسُها التي منحتهم الفرصَ التالية ليُصبح أكثرُهم ذوي شأنٍ رسمي أو مجتمعي أو وفرة مالية.
** تحت خط الفقر وُلد وعاش بعضُهم، وفوق حد الترف تتوجت حياة أكثرهم، والمسافة بين الـ «فوق» والـ «تحت» تتسعُ لمراحل النموِّ البشري؛ فبداياتهم مشبهة لحياة ما قبل ألف عام، ثم تسنموا الذُّرى فكتبت ثللٌ سيرًا متماثلةً يفصلها تغيير المواقع ويشوبها خلطُ الوقائع، وتبقى نتاجَ فترةٍ لا يعيها المكتهلون إلا من خلال الروايات الشفهية؛ فهي - على الأقل - سجلٌ تاريخيٌ خارج من رحم المجهول إلى محطات الوصول، وفيها معلومةٌ وقصةٌ وتحليلٌ وتعليل.
** الموضوعُ هنا متصلٌ بقيمةِ السيرةِ نفسِها منفصلةً عن محيطها، وبخاصةٍ بعد انتشار من يُوسمون - في الأدب العالميّ - بالكُتّاب «الأشباح» المختصين بإعداد السير وتحريرها وطباعتها ونشرها، وهي خدمة مُشرعةٌ لا ضير فيها، وإن خلتْ من منهج صاحبها وأسلوبه وثقافته وبيئته، أو لنقل: من نفْسه ونفَسه، وبتبدلِ الأزمنة تتبدلُ الآليات.
** تفوقت «أيام» طه حسين بأسلوبها، و»حياة» أحمد أمين» بواقعيتها، و»خبز» محمد شكري بجنونها، و»رمال» محسن العيني بذاكرتها، ومكان «إدوارد سعيد» بخارجه، وغيرُها بملامح ذويها الشخصية؛ فكذا قرأنا «زامل» السباعي، و»منفى» العطار، و»سوانح» الجاسر و»جوع» ضياء، و»تباريح» ابن عقيل، وسواهم في سواها.
** تدور معظمُ السير الذاتية حول عتباتٍ معنونةٍ بمثل: «حياة وأيام ومذكرات وذكريات وبدايات وسيرة ومسيرة وتجربة وحكاية ورحلة وأشخاص ومشوار...»، وتضيق الدائرة على من يحاول الإبحارَ خارجها، وقد لا تجتذب القارئَ إذا لم تردْ فيها مثلُ هذه الإيحاءات، وهي إيحاءاتٌ محايدةٌ ومقبولةٌ ولا تدلُّ على ميلٍ نحو التضخيم أو التقزيم.
** صارت المرحلة التالية لتآليف السيرة أوضحَ دلالةً حيث تحكم عناوينَ بعضٍ منها مفردة: (من.. إلى..)، وتعني الارتقاء إلى الأعلى بما قد يقلل من شأن ما بعد «مِن» ويعملقُ ما بعد: «إلى»، كما قد تتضمنُ «بارانويا» ذاتٍ لا ترى ماضيَها بعين الانتماء.
** لكلٍ الحقُّ في اعتناق ما يشاء، غير أن ظلمة الدرب الموحل أثرى من إشراقات المطر الهتون إذا لم يسأم السائر ولم تفترْ إرادتُه، وحينما تتجلى سيرته صدقًا وحقًا ومسؤوليةً توثق التأرخة، وتتجاوز الاستعراض، وتتخلص من البرمجة والأدلجة والقصّ واللصق بحيث لا تكفي سيرةٌ منها عن مئات السير.
** والمؤدَّى أن كتّاب السير مطالَبون بتخطّي حواجز التهيُّب مما لا يُقال، لا بمفهوم الاعترافات؛ فالمجاهرة بالمعاصي ليست سيرة، كما أن التعالي والادعاء والاستنساخ لا يمثل مسيرة، والفشلُ أهمُّ من النجاح، وإبراءُ الذمة أجدى من الحيف والزيف.
** السيرةُ كسبٌ أو خسارة.