الهادي التليلي
الوقوف في منعرج الخطر المتمثل في البون الشاسع بين الأحلام العسكرية، بما فيها من طموحات نووية وأهداف توسعية من ناحية والواقع الاجتماعي المعقد الذي ينبئ بويلات اقتصادية واختناق داخلي ومن ثمة انفجار مجتمعي ضد النظام القائم. هذه المعادلة التي وجدت فيها كيانات سابقة نفسها وانتهت بها إلى التحلل ومنها الاتحاد السوفياتي السابق والدولة العثمانية، فالاتحاد السوفياتي السابق الذي كان يضم أكثر من 15 جمهورية ذات نظام محلي وعاصمتها موسكو والمشترك فيها العقيدة الاشتراكية التي أسس لها موضوعياً فلاديمير لينين منذ عشرينيات القرن الماضي تطبيقا للنهج الماركسي على الواقع بعد ثورة اختارت تعديل أوتار الخطاب الإيديولوجي الذي يرتكز على دكتاتورية اليد العاملة الصناعية أي البروليتاريا والاستعاضة عنها باليد العاملة الفلاحية، لأن الواقع السوفياتي حينها لم ينتقل بعد إلى المرحلة الصناعية وهو ما يعرف بالقاعدة الشهيرة، خطوتان للأمام وخطوة للوراء ومعناه التضحية في سبيل تحقيق أهداف الثورة، فالاتحاد السوفياتي الذي استمر من 1922 إلى 1991 كانت رهاناته العامة هي نفس الرهانات الإيرانية الحالية، أي التمدد الجغرافي بالقاعدة الإيديولوجية والتفوق العسكري اللا منتهي وامتلاك التفوق على مستوى السلاح النووي والريادة على مستوى التسابق من أجل الهيمنة في الفضاء وفعلا تحقق للاتحاد السوفياتي توسعياً الكثير من الفتوحات حيث أصبحت مساحته 22276060 كيلومترا مربعا، أي سدس مساحة المعمورة، كما أنه أصبح يتوافر على أطول حدود في العالم بـ60000 كيلومتر، هذه النجاحات في التمدد والفتوحات في الفضاء، حيث قدم الاتحاد السوفياتي أول رائد فضاء وكان الأكثر تطورا في العالم في هذا المجال. كل هذا وغيره لم يشفع لهذا الاتحاد تجاوز السؤال الأهم والأخطر ألا وهو السؤال الاجتماعي، فالبطون الجائعة لا تفكر وإن فكرت فإن عمر ذلك لن يدوم طويلا، حيث استنزفت الحروب ومنها الأفغانية نصيبا من اقتصاد البلاد أضف إلى ذلك التركيز على الصناعات الثقيلة والفضاء أفقر المواطن وضعف مع ذلك ولاءه، فالسقف الاجتماعي الذي تهدم بضعف الاقتصاد الداخلي كان المسمار الأخير الذي دقه المعسكر الغربي في نعش هذا الكيان العملاق، منهيا سنوات طويلة من الحرب الباردة ومعها كيان الاتحاد السوفياتي الذي ورث جزءا منه روسيا الاتحادية، فكان البروسترويكا التي طرحها ميخائيل غورباتشوف شهادة وفاة اكيان الذي تناقض بين أحلامه وواقعه وولادة لكيان جديد هو روسيا الاتحادية وعلى نفس الخط ولكن بإيديولوجيا مغايرة نشأة الإمبراطورية العثمانية التي منطلقها كان كإمارة حدود تركمانية تحت سلطة السلاجقة عرفت ببسالتها في الدفاع ضد الهجمات البيزنطية هذا الكيان. الذي نشأ بتأسيس من عثمان أول أرطغرل وعمرت ما يناهز 600 عام من 1299 إلى 1923 وتوسعت جغرافيا من شروق الأرض إلى مغاربها متمددة في ثلاث قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا بعدد 29 دولة الدولة العثمانية انتهت فعليا بنهاية الحرب العالمية الأولى حيث أقحمت نفسها في مواجهة القوى العظمى مساندة للأمبراطورية الألمانيا لفك عزلتها وتحللت فعليا مع مصطفى كمال أتارتوك الذي حول الكيان إلى تركيا جمهورية ذات شأن منفصل لا دخل لها بغير الأتراك متعلما من التاريخ مهتما بالشأن الداخلي وترقية المجتمع وتطويره متخليا عن الأحلام الطوباوية لمن سبقوه في الريادة والسيادة وزعامة العالم فالإمبراطورية العثمانية وإن تعددت مسمياتها تشبه في سيروتها الاتحاد السوفياتي السابق حيث كان التوسع والتمدد والعسكرة والدخول في مواجهات عسكرية مستنزفة، إضافة إلى الصعوبات المعاشية للشعب نتيجة وضع اقتصادي حاولت كل منهما المكابرة وعدم النظر إليه مكتفية بالعيش لحظة عظمة خارجيا والحال أن الداخل هو سبب السقوط الحقيقي.
وفي نفس السياق سارت إيران النموج المعيش لهذه النماذج المذكورة والتي يعج التاريخ القديم والوسيط بغيرها من الأمثلة، حيث إن إيران حسب تسميتها التي نشأت على إثر الانقلاب على الشاه بزعامة الخميني 1979، حيث كان الغرب الذي كان محتضنا للخميني وتحديدا فرنسا ققدمته للشعب الإيراني كمخلص ومنقذ من الظلال ومحقق أحلام الفرس في تزعم المشهد الإسلامي والسيطرة على العالم المعاصر وتغير الجغرافيا وفق قناعات توسعية متقاطعة مع مصالح المحيط والأجوار وهو ما تريده الإمبريالية الغربية ساعتها حيث تحتاج إلى ممثل بشكل حداثة سالبة حسب تعبير مطاع صفدي، أي العدو المفتعل الذي ينجز لهم ما لا يستطيع إنجازه الحليف المساند، فتاريخياً وتحديداً سنة 1973 أرسل الرئيس الأمريكي حينها فورد وزير خارجيته كيسنجر لشاه إيران محمد رضا بهلوي طالبا الدخول في مواجهة مع العراق التي كانت ساعتها أيام أحمد حسن البكر تريد تأمين البترول العراقي وعوضا عن أن ينساق للطلب الأمريكي وقع مع العراق اتفاقية الجزائر في 1975 التي بمقتضاها تتعهد إيران بعدم دعم محاولات تمرد الأكراد وكرد على هذا الاتفاق اتفقت أمريكا مع الخميني في فرنسا في 1976 أي بعد عام واحد ومهدت له الطريق بطبخ سيناريو ثورة شباب وطلاب ضد الشاه من الداخل العراقي وعندما تفطن الشاه للمخطط تواصل مع جيمي كارتر الرئيس الامريكي وقتها وطلب حمايته وفي حال الامتناع هدد بضرب الطائرة التي تحمل الخميني فتم تأمينه وعائلته في مصر ليسمح للخميني بالنزول في طهران في 1979 لذلك يضحك الأمريكان كثيراً عندما يطلق الخميني أو ورثته صيحتهم المشهورة الموت لأمريكا.
إيران ككيان يعد سفيرا للنوايا الليبرالية في المنطقة وشأنه شأن إسرائيل كان يعاني عزلة مع محيطه ولم يبدأ فك العزلة إلا مع الحرب العراقية - الإيرانية حيث استغلت إيران العداء الإيديولوجي بين فرقاء البعث العربي العراقي والسوري لبناء جسور تواصل مع سوريا آنذاك أيام حكم حافظ الأسد لتكون اللحظة الثانية مع الحرب اللبنانية لسنة 1982 حيث بدأت بزرع تنظيم أطلق عليه سنة 1985 بعد اكتمال مخاض النشأة حزب الله اللبناني فكانت الجرعة الثانية في فك العزلة. هذا الحزب الذي اعتبر ذراعا إيرانية في لبنان وبعد ذلك تتالت التدخلات نتيجة ضعف التنسيق العربي والخلافات التي استغلها المتمدد الإيراني في المنطقة فأصبحت بعد سقوط صدام المتمكنة في المشهد العراقي والمستفيدة من الفوضى بتنسيق مع الغرب بالشكل الذي أريد له منذ لحظة التأسيس متبنيا سرا كل نهج في التطرف الديني داخل البلدان العربية قصد زلزلة الاستقرار بها وتركيز أذرع تحركها متى شاءت حسب مصالحها ووفق وعود تستجيب لأحلام وطموحات المراهقين.. إيران التي تمددت بحكم الفوضى بين العراق وسوريا وبسطت نفوذا لها باليمن في شكل استعمار بوكالة حوثية يوهمنا الغرب بأنهم على ضفة المعاداة لها وهم صانعوها وحتى ملف العقوبات الاقتصادية يأتي في سياق تحديد نسق السرعة حتى لا ينقلب السحر على الساحر أو بعبارة أخرى سياسة العصا والجزرة حيث يقبع 70 بالمائة من سكان إيران خلف خط الفقر نتيجة ضعف الاقتصاد الداخلي والفساد داخل منظومة الملالي وتحاول هي إقناعنا بأنها تناور العالم في مجال برنامجها النووي وتسعى بشكل لافت لإبراز صورتها كدولة قوية مهابة تستعد لإنتاج قنبلة نووية وفي الحقيقة ليست الغاية من العودة إلى التفاوض البرنامج النووي الذي في كل مرة تعصف به عمليات تخريب خارجية وإنما الهروب إلى الأمام من انفجار في الجبهة الداخلية قصد توحيد الصف أمام الخط الخارجي والغرب يهرول إلى المفاوضات وهو يعلم علم اليقين أن القنبلة النووية الحقيقية هي الجبهة الداخلية وأن التقدم في التخصيب بالونات تفاوضية إعلامية لا غير والدليل بعد يوم واحد من حادث تخريب في أحد مفاعلاتها تم الإعلان عن قرب الوصول إلى 60 بالمائة في نسبة التخصيب الغرب يعلم علم اليقين أن تفتت القنبلة الداخلية في المشهد الإيراني هو المقصود ويحتاج لإيجاد منفس لإنقاذه وحتى الصين لما بادرت بعقد إتفاقات مع إيران لأنها تعلم جيدا أن الغرب تت الطاولة اليد في اليد مع إيران فالضحية في لعبة إيران الكبرى ووهمها هو شعبها الضحية الذي يتوهم بأنه في مواجهة أمريكا والغرب وتربت أجياله على كره هذا العدو وفي حقيقة الأمر إيران هي صنيعة وإحدى فقرات البرنامج الطويل للغرب والسؤال الذي يطرح نفسه ما هو الخطر الداخلي المقصود في كل هذا هنا يحدثنا بن رودس المسؤول الأمريكي السابق على التفاوض مع إيران والذي اجتمع سرا أكثر من 20 مرة مع الطرف الإيراني بأن أوباما منبهر أيما انبهار مع إيران وأن ملف داعش لا يعرفه إلا كليهما متعرضا إلى كون الجلوس على طاولة المفاضات كان للتنفيس على إيران من جحيمها الداخلي حيث غنمت في كل مرة مئات الملايين من الدولارات وبالتالي ما لم يقله بن رودس وقاله غيره أن الميز العنصري والديني داخل إيران يشكل خطرا وبرميل بنزين في المشهد الإيراني إضافة إلى الفقر وتردي الحالة المعيشية وازدياد الفوارق الطبقية إضافة إلى انتشار تجارة الإتجار بالبشر والأعضاء والعصابات المنظمة كل هذا يحتاج لجبهة خارجية ووهم خطر أجنبي لتأجيل الانفجار الذي يهدد الكيان الإيراني بالتفتت إلى ثلاث دول مختلفة العرق والمذهب فالتخصيب 60 بالمائة تكاد تكون شفرة بين إيران والغرب بأن الأزمة الداخلية بلغت 60 بالمائة ووجب إنقاذها.