أ.د.عثمان بن صالح العامر
لا تَخَفْ من تغيُّر الرقم المالي لديك، ونقص الرصيد البنكي عندك، جراء إخراجك هذه الأيام الفاضلة والليالي المباركة الزكاة الواجبة في المال التي هي حق من حقوق الثمانية المذكورين في سورة التوبة؛ ذلك أن المعول عليه حقيقة ليس ما لديك من رصيد بل ما في المال من بركة. نعم.. إن من المصطلحات ذات الخصوصية الإسلامية هذا المصطلح (البركة) الذي يجعل للأعداد روحًا، وللأرقام أثرًا، حتى لو كانت في المقاييس البشرية المحدودة قليلة. ليس هذا في المال فحسب، بل للمصطلح شموليته الدلالية التي تمتد لكل مفاصل الحياة؛ فالعمر مثلاً ليس بعدد السنوات التي يحياها الإنسان، بل في بركة هذا العمر؛ إذ قد يعيش الواحد منا مئة سنة، ولكنها مسحوقة البركة الدنيوية والأخروية لا سمح الله. وعلى النقيض، هناك من مات وهو لم يجاوز الخمسين من عمره، ولكن بركة هذه الأعوام جعلت له عمرًا ثانيًا، ما زال يحيا به في الناس مع أنه مات منذ مئات السنين. وقس على ذلك الولد؛ إذ ليس البر بكثرة الأولاد بل قد يكون للإنسان ولد واحد، ويطرح الرب فيه البركة، فينفع والديه أحياء وأمواتًا. ومثله العلم؛ إذ ليس المعيار بالشهادة التي يحملها المرء بل في مدى بركة هذا العلم الذي حصل عليه فنفع الله به خلقًا كثيرًا.
أعتقد أننا بحاجة إلى التفتيش الحقيقي عن الأسباب الجالبة للبركة؛ فهي ما يستحق البحث عنه في هذا الزمن بالذات الذي أصبح الكثير منا يشتكي من نزعها، أو على الأقل قلتها، سواء حين يتحدث عن الوقت أو المال أو الولد أو المنصب والجاه.
* أحيانًا أقف متأملاً في التراث الذي خلفه عَلم من أعلام السلف فأتعجب من عمقه وقوته وكثرته مع أنه كان يكتب بالفحم وعلى سراج، وقد تُوفي هذا العَلم وهو لم يجاوز الستين من عمره!
* كثيرون يقولون لا نحمل معنا نقودًا في جيوبنا لأنها سرعان ما تطير، والخمسمائة أول ما تصرفها تنتهي!
* أُم لديها من الولد عشرة أو يزيد لا تجد من يقوم على شأنها ويذهب بها إلى مواعيدها الضرورية!
* أما عن الوقت فكلنا يشتكي من سرعة تصرم الليالي والأيام بشكل مخيف دون فائدة تذكر.
لن أسوق للبركة الفعلية مثالاً بعيدًا عن وقتنا المعاصر:
* فها هي ملحمة توحيد المملكة العربية السعودية تحت راية (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) تحكي منجزًا حضاريًا، لا يمكن أن يقاس بالزمن الذي عاشه المؤسس الباني لهذا الكيان الشامخ جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
* وحياة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين خير مثال للبركة في الوقت والعلم، والقيام بأداء الرسالة الدعوية والتذكيرية في الحياة على ما يرضي الرب سبحانه وتعالى، رحمهما الله رحمة واسعة، وأسكنهما فسيح جناته.
* وعن بركة المال فإن المثال الأبرز في نظري رجل الأعمال المعروف سليمان الراجحي، أطال الله في عمره على الطاعة. ولعلنا جميعًا سمعنا قصة حياته منه.
لذا جدير بالجيل أن يقرأ سير هؤلاء الأفذاذ، ومَن على شاكلتهم؛ ليكتشف سر البركة التي نفتش عنها، ونبحث عن الأسباب الجالبة لها؛ إذ إن البركة محل الحديث هي سر من أسرار سعادة الإنسان، وسبب مباشر لتحقق التصالح الفعلي مع النفس، وبها تنجز كثير من الأعمال التي تثقل كاهل الرجال في زمن قصير، مع واجب الدعاء دومًا بأن يرزق الرب سبحانه وتعالى البركة في كل شيء؛ إذ إن الأمر في النهاية بيد الله. فاللهم ارزقنا بركة العمر والمال والولد والعمل. دمتم بخير. والسلام.