سام الغُباري
يبعث رمضان إليك آلاف الرسائل، وتزدحم صناديق البريد الإليكترونية بالتهاني، إلا أن «هشام» الذي لا يخوض في هذه الموجة التنافسية قد ألقى برسالة أخرى إلى بريدي الوارد يسأل عن أسباب غضب اليمني المتكرر من بلاده، وولعه في تحليل كل صراعات العالم، فأجبرني على الابتسام.
قبل أشهر كان اليمانيون منقسمين بين «أرمينيا» و»أذربيجان»، وحملت وسائل التواصل مشاجرات عديدة، بين من يسطح رأي الآخر، ومن يتهم غيره بالتواطؤ الفكري، وكأن آخر ما يهم أولئك السفسطائيون حل مشكلات العالم بعين القوة العظمى!.
تجاهلت رسالة «هشام»، فأعاد الكرة، وبقيت في حالتي مترددًا، لا أريد خوض غمار تحليل اجتماعي مزمن، مثل الإنفلونزا التي لا تختفي سلالاتها وتتبدل كل فترة بتحور آخر، ثم تهاجم الإنسان.
قلت له: يا هشام، اليماني لا يكره بلاده، ولكنه لم يشعر منذ عقود أن له حكومة تحميه، فمنذ ظهور مصطلح «المواطن» في القرن السادس عشر الميلادي، وبزوغ فجر الدولة الوطنية، كان اليماني غارقًا في بؤس الوجود العثماني، وأعقبه حكم الإمامة العنصرية التي استغلت كفاح اليمانيين على السلطة العثمانية لتُرسي وجودها، ثم قامت جمهورية محنطة بانقلاب عسكري مثل مومياء بداخل قفص زجاجي فاخر، تشاهدها وتشعر بانتمائك العرقي والوطني لها، ولكنها ميتة لا تحمي نفسها من أي عبث مفاجئ، وبجوارك يطوف دليل مفوه، يشرح لك بإبهار: كيف أن جدّك المحنط بنى السدود والدور المرصعة بالرخام والعقيق.
لقد عاشت الدولة اليمانية داخل المتحف عقودًا طويلة، ورغم ذلك لم تسلم الآثار من السرقة، فما يزال بعض الموظفين يبيعون تحفًا نادرة إلى لصوص دوليين، وكلما خطر ببال يماني في أرجاء الأرض زيارة أي متحف، يجد أثرًا يمانيًا بداخله، وكأنه قدر الشتات أحياءً وأمواتاً.
وقفت لبرهة، ثم عُدت للكتابة: يا هشام، لقد مرت اليمن بتجارب كُبرى، ومعقدة، حيّرت كل متابع لها، لكنهم اتفقوا دومًا على بساطة الإنسان اليماني، وأحلامه الصغيرة، وأمنياته التي تجدها منسوخة في رأس كل مواطن بأن يرى وطنه كباقي الأوطان التي يمر عليها في ترحاله الطويل.
لكننا وقد خرجنا كرهًا من جمهورية الموز، أقبلت علينا جمهورية الرُمان، وتحوّلت «صعدة» البارعة في زراعته إلى إنتاج ملايين القنابل والألغام، وبوسادة عنصرية ناموا عليها طويلًا، عبرت بهم من الهوية اليمانية إلى هويتهم السُلالية، وأخرجت فتنة نائمة من وراء أحجار الكهوف وصخور القسوة والإثم.
يحتاج اليمانيون إلى التجربة، ورؤية العالم، والخروج من ركن الكرة الأرضية القصيّ، إلى فضاء أبعد، وأن تكون تجربتهم المريرة التي يخوضونها اليوم درسًا لا يجوز تكراره في المستقبل.
يا هشام: اليماني يريد أن يرى قيادة وحكومة تهتم بوطنها كما تُدلل عيالها، ويريد مشروعًا ملهمًا، نظامًا يُمنح فرصة طويلة لإصلاح الجريمة السياسية العنصرية، والالتفاف حوله لإنجاح كل ما ينبغي.
وسألني فجأة: فمن يكون؟
وأغلقت هاتفي.
صومًا مقبولًا.
** **
- كاتب وصحافي من اليمن