عبدالرحمن الحبيب
في عام 2010 تم استبدال المذيع الأمريكي الشهير لاري كينغ بعد 25 عامًا كأشهر محاور عالمي في برنامج «لاري كينغ لايف» على شبكة سي إن إن الأمريكية، بسبب ما قيل إن نهجه غير التصادمي وأسئلته المفتوحة وقلة كلامه وعدم مقاطعته للمتحدث، قد عفا عليه الزمن في عصر أساليب المقابلات الأكثر عدوانية. الشبكة استبدلته بالمذيع البريطاني بيرس مورغان الذي كان معجباً بكينغ، لكن كينغ انتقد برنامج مورغان لكونه «يتحدث فيه أكثر من اللازم».
يقول الفيلسوف اليوناني زينون الرواقي: «لدينا أذنان وفم واحد، لذا يجب أن نستمع أكثر مما نتكلم»؛ وعندما نتكلم فالأفضل أن نحسن اختيار الكلمات أو كما يقول المثل «فكر قبل أن تتكلم»، إلا أن أغلبنا يفضل الكلام العفوي، ربما للتعبير عما يختلج في دواخلنا من عواطف ومواقف؛ إذ وجدت دراسة أن الموظفين الذين شاركوا في دائرة الاستماع انخفض لديهم القلق الاجتماعي والمخاوف بشأن الأمور المتعلقة بالعمل مقارنة بمن لم يشاركوا في الدائرة (Harvard Business Review). لذا، تستخدم بعض الشركات أسلوبًا يُعرف باسم «حلقة الاستماع» حيث يتم تشجيع المشاركين على التحدث بصراحة وصدق حول المشكلات التي يواجهونها (مثل المشكلات مع الزملاء).
لعله من البديهي أننا نستمع أكثر مما نتكلم، سواء من باب اللباقة الأدبية أو الفائدة المعرفية، حتى في وسائل التواصل الاجتماعي يوصى بأن تُرسل عشر إرساليات من إنتاج الآخرين مقابل كل إرسالية من إنتاجك.. «عندما ترسل للآخرين، لا تبالغ بإرسال إنتاجك الشخصي، كن كريماً ومفيداً، شارك معرفتك مع الآخرين فيما أنت خبير أو جيد فيه، لكن لا تكرر إرسال إنتاجك أكثر من مرة. لا تكن نرجسياً، واستخدم قاعدة 1: 10 أي مقابل كل إرسال من إنتاجك أو ما يتعلق بك يقابله عشرة لا تتعلق بك»، كما جاء في كتاب عن أدب التعامل عبر الإنترنت لفرجينيا شيا.
الحوارات فيما مضى كانت تتم وجهاً لوجها بحيث ترى من تحاور في أوقات مناسبة للحوار، ومن ثم تراعي مشاعره وتضبط انفعالاتك، أما الحوار بالوسائط الجديدة بالإنترنت فهي تتم بأي وقت وبأي مزاج نفسي دون رؤية الطرف الآخر، فلا تدري عما لديه من حساسية؛ فقد تضايقه دون قصد حتى لو كان عزيزاً عليك. أما الحجر والعزل جراء وباء كورونا فقد جعل كثيراً من الحوارات واللقاءات ومعظم محادثات العمل تتم عبر الإنترنت؛ ومن الصعب التقاط الإشارات الدقيقة التي يكشفها الناس في تعابير الوجه ولغة الجسد التي تبعث بكثير من الرسائل غير المنطوقة.
الاستماع هو «تحديد واختيار وتفسير الكلمات الرئيسة التي تحول المعلومات إلى ذكاء»، حسب تعريف الخبير في فلسفة الاستماع ريتشارد مولندر مؤسس شركة تسمى معهد الاستماع، وهو كان ضابط شرطة بريطاني ثم مفاوض رهائن، ثم المدرب الرئيسي لوحدة التفاوض بشأن الرهائن في شرطة لندن، تعامل مع كل شيء من المحاورات الانتحارية إلى عمليات الاختطاف الدولية، وفقاً لمجلة الإيكونيميست.
يختلف مولندر عما يعتقده الكثيرون من أن الاستماع الجيد يتعلق بالإيماء برأسك أو الحفاظ على التواصل البصري، بل إن المستمع الجيد يبحث دائمًا عن الوقائع والعواطف والإشارات المتعلقة بقيم المحاور. وعندما يتعلق الأمر بالمفاوضات، يبحث الناس عن نتيجة. الهدف من الاستماع هو التأكد مما يحاول الطرف الآخر تحقيقه.
لا تنس أنك عندما تتحدث، فأنت لا تستمع.. في كل مرة تشارك فيها رأيًا، فإنك تقدم معلومات عن نفسك.. بالمقابل، فإن المستمع الجيد، من خلال التزام الصمت، يكتسب ميزة على نظيره أو نظيرتها، كما يقول مولندر. بالطبع، يحتاج المستمع إلى التحدث من حين لآخر. تتمثل إحدى الطرق في إجراء تقييم لما يقوله لك الشخص الآخر ثم التحقق منه معه، كأن تسأل عن صحة فهمك لما يقوله مما يعطي الطرف الآخر إحساسًا بأنك تحاول فهمه. يقول مولندر إن الهدف الأساسي هو بناء علاقة بحيث يحبك الشخص الآخر ويثق بك، وسبق أن قال الجاحظ: «من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤونـة الاستماع منك».
الخطأ - حسب مولندر - الذي يرتكبه الكثير منَّا هو طرح الكثير من الأسئلة، بدلاً من ترك الشخص الآخر يتحدث. يجب أن يكون تركيز المستمع على التحليل. إذا كنت تحاول إقناع شخص ما بفعل شيء ما، فأنت بحاجة إلى معرفة معتقداته. إذا كان شخص ما منزعجًا، فأنت بحاجة إلى تقييم حالته العاطفية. مفتاح آخر للاستماع الجيد هو الانتباه وتجنب التشتيت، ففي عصر انفجار المعلومات، من السهل جدًا انجراف التركيز إلى عجائب واتساب أو تغاريد غاضبة في تويتر أو العناوين الكبرى للأخبار.
بعد عام من العزلة التي فرضتها ظروف وباء كورونا، ربما يحب العديد من العاملين فرصة الاستماع إليهم حيث تضاءلت فرص المحادثات غير الرسمية، ويشعر الكثير من الناس بالإحباط في عزلتهم، مما قد يؤدي إلى التوتر والغضب، حسبما يرى مولندر الذي يؤكد أن الإغلاق زاد من حاجة المديرين إلى الاستماع إلى العاملين، معتقداً أنه قد تكون هناك فرصة عمل لمساعدة المديرين على الاستماع بشكل أكثر كفاءة، حتى يتمكنوا من تعزيز رفاهية الموظف (الإيكونيميست).