عبد الرحمن بن محمد السدحان
بلغتُ المرحلةَ الابتدائيةَ بجهدٍ جهيد، كنتُ أقرأ ما تيسّر لي من القرآن الكريم، وأكتبُ عباراتٍ خجولةً، نصّا ومعنىً، كاد صَبري أن يبلغ أقصاه تأثرًا بأسلوب (التربية) المتبع في ذلك الحين، المبني على سطوة عصا المعلم وقسوته، فقرّرت (الهجرة) إلى ريف جدّي والعيش معه هناك، ثم شرحت لجدي ووالدتي رحمهما الله سبَبَ هجرتي من أبها إلى الريف إنقاذًا لنفسي من عناء السير ذهابًا وعودةً كل يوم سيرًا على الأقدام وسط الجبال، ومعاناة من قسوة أساليب التعليم قمعًا بالسوط واللسان!
***
• رحب جدّي (لأمي) رحمهما الله بعودتي إلى حضن الريف، وبدأتُ بعد فترة قصيرة برعي الغنم في الهضبة المجاورة، فأمضي في رفقتها وقتًا من النهار أنفق معظمه في بناء الحصون الصغيرة مستخدمًا الحجر الأسود والأبيض (المرْو) المتاح هنا وهناك في القفر الواسع، وأحيانًا أصعد إلى إحدَى الهضَاب القريبة أطلّ من ذروتها على المزارع القريبة، وفي الوقت ذاته، أتابع حركة رعي الأغنام في السهل، وقبيل الغروب أركز البصرَ على منزل جدي من بُعد، فإن شَاهدتُ دخانًا ينبعث من فوق سطح المنزل، استبشرت بأن في بيتنا لحمًا ذلك المساء! وإن كانت الأخرى، فليس لنا من عشاء سوى العصيد واللبن بديلاً عن اللحم، وتلك نعمةٌ أخرى.
***
• الرحلة إلى جازان على ظهر بعير.
• مضى وقت ليس بالقصير في ضيافة جدي قبل أن أصل مرحلة الإرهاق من العيش في الريف، رغم محبة جدي لي واهتمامه بي، فقررت الانضمام إلى سيدي الوالد (رحمه الله) في مقر إقامته في جازان، وكان البعير الوسيلةَ الوحيدةَ لبلوغ ذلك الهدف.
***
• بدأت رحلةٍ بريةً مضنيةً إلى جازان في قافلة من الجمال بقيادة (العم بن صالح)، وكان معروفًا لدى والدي، واضطررت إلى كبت حزني لفراق سيدتي الوالدة، لكن دموعي كشفت سري، خاصة حين أصرت رحمها الله على مرافقتي إلى بداية الطريق الجبلي لوداعي. وكانت لحظاتٌ لا تنسى!
***
• شددت الرِحال إلى جازان في رحلة برية مضنية استغرقت نحو ستة أيام، وكنت ضمن قافلةٍ مكونة من خمسة عشر بعيرًا محملةٍ بأصناف البضائع، وكان قائد الرحلة (ابن صالح) قد خصّص لي جملاً جعله في مقدمة القافلة. وكنّا نسير طرفًا من النهار، ثم نتوقف للراحة وتناول الطعام، ثم نستأنف السير معظم ساعات الليل حتى الفجر، وهكذا حتى النهاية، أما أنا فقد كنت أستمتع بالنوم على ظهر الجمل بترتيب مريح يشرف عليه قائد القافلة نفسه.
***
• كان لقائي بسيدي الوالد في مقره بجازان أقرب إلى الحلم الجميل، وتمنّى لي وقتًا سعيدًا، رغم حرارة الجو ورطوبته.
***
• أمضيت في جازان نحو سبعة أشهر، حللتُ خلالها (ضيفًا) على المدرسة الابتدائية في السنة الثانية.
***
• انتهت الدراسة ذلك العام، وقد عيل صبري بسبب حرارة الجو، وشوقي لوالدتي، فقرر والدي إرسالي إلى أبها على متن سيارة نقل، تصحبني عائلته، وكانت رحلة ممتعة مقارنةً بتجربة السفر على متن الجمل، والتحقت من جديد بالمدرسة الابتدائية في أبها، وكنت أمضي جزءًا من إقامتي بمنزل جدي، والجزء الآخر مع سيدتي الوالدة والحمد لله من قبل ومن بعد!.