الهادي التليلي
كلما مرت الأعوام صعوداً تعمق فينا ذلك الطفل الذي يسكننا، إنه ذاته الذي يجري حافي القدمين في شوارع مدينة صفاقس التونسية المدينة الساحلية والعاصمة الاقتصادية لتونس، هذا الطفل الذي وإن تقدمت به السن فإنه لم يكبر، إنه يجري في ذاكرتي بحثاً عن شيء لا يعرفه شيء يتحدد لحظة التقائه بأقرانه الذين مات منهم من مات، وبقي منهم من بقي، هذا الطفل الذي يعشق تسلق الأشجار في الغابة الصغيرة لوادي الرمل أو المشاركة في حرب بالحجارة ضد أطفال زنقة العربي الذين لا يفصل بيننا وبينهم سوى طريق المطار.. هذا الطفل الذي يحلم أن يكون قامة أدبية أو علمية فيرى نفسه حيناً في الشعراء الذين كان يكتب شقيقه الأكبر على صناديقه الخشبية التراثية والتي كان مغرماً بجمع بعض أبياتهم ويستعير صورة الطبيب الذي يعالجه فيتخيل نفسه بتلك البدلة ويعود إلى المنزل وهو يعالج أقرانه مردداً نفس كلمات الطبيب التي قالها له، هذا الطفل الشقي الذي كنت ولا يزال يسكن ذاكرتي كأنما ينتظر شهر رمضان الكريم بشغف لا أكبر منه لحظة انتظار أذان المغرب من جامع الصديق والهرولة بعد سماع صوت المدفع الذي يطلق من خلف أسوار المدينة العتيقة وتحديداً من «باب الجبليّ» مباشرة يهرول كل إلى بيتهم بصرخة معروفة، وكأن الجميع لم يسمعوا الأذان أو لم يسمعوا صوت مدفع رمضان، أو هكذا كنا نسميه، رمضان كان يعني لهذا الطفل مهرجاناً متنوع التفاصيل من طاولة الطعام التي تتنوع بما تجود به إبداعات أمي البية - أطال الله عمرها - محتفية بالشهر الكريم «البريك بالتونة «والشربة «والكسكسي بلحم العلوش أحياناً أو بسمك البحر أحياناً أخرى مع الكسرة وهو الخبز المحلي الذي تصنعه بمناسبة هذا الشهر، كما تتشح طاولة هذا الشهر بحلويات رمضانية خالصة هي «الزلابية» و»المخارق» وهي أكلات تختص بها محلات تعود لعائلات محلية تحولت إلى ما يشبه البرند الذي يتوزع في العالم أينما تواجد التونسيون بكثافة ومنها عائلة «التيس» ويعودون لمدينة غمراسن الجنوبية.
في ليلة النصف من رمضان يكون كل شيء مختلفاً، حيث تطبخ كل عائلة طبقين واحد للعائلة والثاني صدقة للمحتاجين، هذا الطقس تشترك فيه كل العائلات فقيرها أو متوسطها ولا أعلم إن كان الأغنياء لهم نفس الطقس لأننا لا نعرفهم وقتها وليلة السابع والعشرين ليلة مختلفة نختم فيها القرآن مع العائلة وفي الغالب في دار عمي ونبات كل أمام الشبك يتصيد ليلة القدر حتى تتحقق أحلامه، وكلما ومض نجم أو شهاب بدأ الواحد منا يدعو بصوت مرتفع في لحظة تأثر وانفعال..
كبر هذا الطفل وانضاف إليه شاب دون أن يحل محله هذا الشاب الذي أخذته رياضة الجودو والصحافة والشعر إلى غياهب علاقات وصداقات جديدة فأصبحت جلسة النرجيلة مكملاً أساسياً لما بعد صلاة التراويح ومما يميز رمضان في ذاكرتي تلك الفترة القافلة الشعرية الرمضانية التي كنا نجول فيها كمجرات من الشعراء المبيتات والأحياء الجامعية في صفاقس، هذه التظاهرة التي حصدت نجاحات وأصداء وكنت قد أسستها أنا ومراد العمدوني ساعة إشرافنا على نادي الشعر بصفاقس باقة من رفاق الدرب الذين نحتوا مساحات من ذاكرتي مثل عمر بالحاج علي الذي يبكي لألمي وأبكي لألمه والحبيب الأسود الشاعر والمثقف الصادق وبلقاسم الخماري صانع النجوم والقابع في الظل أسماء تتغنى بها ذاكرتي ساعتها ولا ننسى من ذهب الموت ببعضهم أصدقاء لم يذهب الزمان بأريج محبتهم ومنهم الشاعران محمد البقلوطي وعبد الرزاق نزار، كما لا أنسى جلسة الشطرنج مع صديقي فيصل الطرابلسي حتى ساعة متأخرة في شكل احتفالي بالجلسة حيث ترش الأرضية الرملية أمام محل والده بالرمل وتوضع الطاولة قبل بدء المعركة ويبقى مراد العمدوني عشيري وتوأمي في الإبداع والذي بقي متحركاً بين الشعر والسياسة فوصل بالشعر منزلة رفيعة وبالسياسة لمجلس نواب الشعب، مراد كان صديقاً صدوقاً كانت عائلته عائلتي وعائلتي عائلته كنا شقيقين، وأكثر حتى أننا عندما توسعت دائرتنا صرنا نقدم عروضاً شعرية مشتركة.. المجموعة التي كانت تتسامر في رمضان وما بعده كان زعيمها رجل المسرح رياض الحاج طيب الذي بعد فوضى الربيع العربي اختار أن يبتعد عن الفن الرابع لفائدة السلطة الرابعة سهرات رمضانية كانت عادية ولكنها كانت تحرك المشهد الثقافي والإعلامي لمدينة صفاقس حيث كان الهامش يصنع المعنى فكان راشد شعور لا يعجبه العجب لأنه يحلم بصفاقس أجمل، ومنصور الجمل يريد أن تتحول صفاقس إلى عاصمة ثقافية عالمية، فرمضان الذي نودع سهراته بسهرة ليلة العيد إلى لحظة صلاة العيد حيث نقتني قبله خبز العيد في مشهد يستحق التجسيد الدرامي..
ولما صرت مديرالخلية المهرجانات بالمدينة أولاً وبعد ذلك مديراً لدار ثقافة كان كل شهر مساحة وسوقاً للفعاليات التي يتزامن صداها مع مهرجان المدينة المنصة الاحتفالية الأولى في الشهر الكريم، كما يحضرني فقرات خرجت من رأسي إلى العالم بدءا بمهرجان الضحك الذي جمعت حوله العائلات الريفية بمنطقة الكساسبة التابعة لمدينة المهدية أول محطة مهنية في مساري ثم مهرجان الحكواتي بجزيرة قرقنة المحطة القبل الأخيرة قبل مجيئي للعمل بالسعودية.
رمضان في تونس كان ماكانت تتفنن في تقديمه لنا أمي ثم جاءت العائلة الصغيرة فكان لأم مرام دوراً في تجسيد الطقوس الرمضانية بأطباق عربية وأندلسية توارثتها فشهر رمضان في تونس في ذاكرتي هو ما نبشناه من فرح أطفالاً وكباراً وما ترسب من جلسات وفعاليات، وما بقي فينا من صدى صوت المدفع الذي يعلمنا بالتوازي مع الأذان أن وقت الإفطار قد حان هذا المدفع الذي صرت أكرهه لأنه ذهب بحياة أحد أصدقائي عبدالرزاق العائدي المسؤول البلدي الذي أراد صيانته فانفجرعليه باروده..