شوقية بنت محمد الأنصاري
في كل عام نردد رمضان شهر القرآن، ولكن القلة من يقف على جماليات البيان القرآني وخصائصها البلاغية وسحرها الجمالي، كيف تمر على الآذان تلك النغمات اللغوية من حروفه وأصواته وحركاته ومواقع كلماته، والطريقة التي نظم الله تعالى بها كتابه المبين، يقول الجاحظ في مقدمة كتابه البيان والتبيين: ذكر الله تعالى جميل بلائه في تعليم البيان وعظيم نعمته في تقويم اللسان فقال {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، فالقرآن الكريم على مر العصور هو محور اهتمام البشرية وفي كل يوم يثبت إعجازه ويتحقق لنا أن السعادة الحقيقية تكمن بين دفتي صفحاته. اتجهت عناية العلماء بالقرآن الكريم من مختلف البيئات العلمية من فقهاء ومفسرين ولغويين وبلاغيين، حتى الطب والعلوم العلمية والبيئية كان لها اهتمام وعناية بتفسيره وبيان غريبه، ومعرفة أساليب فنونه المتنوعة. ذكر الدكتور عبدالعزيز الحربي رئيس مجمع اللغة العربية بمكة المكرمة في كتابه (تحزيب القرآن): (إن فهمك للغة العربية يُدْنيك من فهم النصوص من المستوى الذي كان عليه العرب الذين نزل فيهم القرآن؛ لأن كل نص من النصوص الواردة إنما يفهم بوسيلتين: معاني اللغة فإنه بقدر حذقك لمعرفتها تكون إصابتك الصواب، وعقل صحيح يكون بمثابة الميزان الذي يوزن به الأشياء فيزن به فهمه وحكمه وعمله. ماذا نحن من درجة الفصاحة والتمعن والتدبر ووصف ذلك الشعور في القراءة الخاشعة المتصلة بالخالق جلّ في علاه، لا زلنا بحاجة إلى بذل الجهد والعناية والقراءة في كل تفاسيره وعلومه لنمضي على سيرة هؤلاء العلماء بالكشف عن أنوار الإعجاز البياني في القرآن الكريم الذي جعل عمر بن الخطاب يقف أمام روعة نظمه وينطفئ غضبه ويعلن إسلامه، والوليد بن المغيرة يصفه بوصف ما زال يتردد على مسامعنا (والله لقد سمعت كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وما يقول هذا بشر)، وتأمل هذا الوصف الأدبي للرافعي: (لو تدبرت نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما له من أمر الفصاحة فيهيئ بعضها لبعض ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف مساوقة لها في النظم الموسيقي حتى إذا خرجت كانت أعذب شيء وأرقه ومتمكنة في موضعها)، أما الشيخ عبدالقاهر الجرجاني فيصف التراكيب البياية وتنوع معانيها في ألفاظ القرآن: (ومن الفضيلة الجامعة أنها تبرز هذا البيان أبدًا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلاً وتوجب له بعد الفضل فضلاً وإنك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت بها فوائد حتى تراها مكررة في مواضع لها في كل واحدة من تلك المواضع شأن مفرد وشرف منفرد وفضيلة مرموقة وخلابة)، وهذه وقفة جمالية من كتاب علم البيان وثراء المعاني في القرآن الكريم للدكتور يوسف عبدالله الأنصاري -رحمه الله- حيث تحدث عن علم البيان وتنوع أساليب القرآن في التعبير عن المعنى الواحد ودوره في إثراء اللغة العربية وتنمية مفرداتها، كعامل من عوامل ثراء اللغة ونموها كالقياس والاشتقاق وغيرها: (النور) هو الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار وهو ضربان: ضرب محسوس بعين البصر وينتشر من حولنا كنور القمرين والنجوم، وضرب معقول بعين البصيرة وهو ما انتشر من الأمور الإلهية كنور العقل ونور القرآن وجميعها وردت في القرآن ولعل أجمل وصف للنور يكمن في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أجمع العلماء على أن التشبيه في هذه الآية تشبيه تمثيلي حيث شبه فيه نور الله بصورة مركبة عجيبة هي صورة نور المصباح المتوهج ضياء في داخل زجاجة صافية اللون كالكوكب الدري، يوقد هذا المصباح من زيت مستخلص من شجرة مباركة يجعل الضوء أكثر صفاء وضياء فهو «نور على نور» فجمال التشبيه ساهم في إثارة العواطف ولفت الانتباه وحث العقل على التأمل والموازنة بين نور الحق وظلام الباطل، بإفراد النور الحق لله وحده.
القلب: هو المضغة المستقرة في التجويف اليسار من الصدر وسمي بذلك لكثرة تقلبه، ورد في القرآن الكريم على معانٍ عدة: بمعنى العقل والفهم، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}. بمعنى الروح، قال تعالى {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}. بمعنى الرأي والتدبير، قال تعالى {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} بمعنى حقيقة القلب الذي في الصدر، قال تعالى {وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، وقد تنوعت أساليب البيان القرآنية وطرائقه التعبيرية في القلب: التشبيه {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، الاستعارة المكنية {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، المجاز {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، الكناية {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
ولي وقفة حول البناء الصوتي في البيان القرآني فهو يحمل طابعًا لا يلتبس معه غيره، بل تنجذب الأعناق له وتأتلف الأرواح لتراتيله، فالقرآن اكتمال لنماذج صوتيات ذات طابع رنان حي كونت لنا تراكيب خالدة للغة العرب، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} صوت الشدة باعث قوة بدفء الأمان الإلهي، ينطلق بروحي لرحلة سماوية تطرق باب حب الله، وعند الوصول تتجسد ذاتي أمام مشهد عجيب يتباهى به أهل السماء، من بشرى الحديث القدسي (يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبوه فينادي جبريل في السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه)، ومن الخصائص العليا التي امتاز بها بديع النظم القرآني النغمة اللفظية التي تتجلى في اتساق القرآن وائتلافه اتساقاً عجيباً، يسترعي الأسماع ويستهوي الأنفس نحو رحلة إيمانية تجدّد الصفاء النفسي والروحي، كقوله تعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ} مشاهد جمالية تزيدني شوقاً للقاء الله، تأخذني في كل الطرقات صعودًا ونزولاً بهدوء وضجيج وبرقّة ونداوة، ليفيض من النفس الرضا وينساق عليها نور الله. وأختم مقالي بوصية من صدقت كلمته وصحت مقولته في وصف البيان القرآني، الإمام ابن القيم الجوزية: (وأما التأمل في القرآن فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقُّله، وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، ولا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتخوفه من العذاب الوبيل).