حمّاد بن حامد السالمي
كانت العاصمة العراقية بغداد هي التي أخذتني إلى تونس الخضراء لأول مرة منذ أربعين عامًا، كما أن مكة المكرمة هي التي أخذتني إلى مدينة القيروان في الجنوب التونسي. كان هذا وأنا لم أزر بغداد في حياتي، وإن كنت أعدُّ مكة المكرمة مدينتي الثانية، حيث سكنتها ثلاثة أعوام للدراسة، وكنت منذ الصغر أتردد عليها، وما زلت..!
ليس فيما قلت أعلاه أي إلغاز، وهذه هي حكايتي مع تونس ومع القيروان التي نسجتها الصدف في ثمانينيات القرن الميلادي الماضي.
كان (المجمع العلمي العراقي) - بتوصية من صديقي البروفيسور يوسف عز الدين رحمه الله - يتفضل علي كل شهر بنسخة من مجلته العلمية الشهيرة، التي ظلت تصلني طيلة عشرة أعوام إلى سنة الغزو الصدامي للكويت؛ فتوقفت. كنت أتابع ما تنشره من بحوث ودراسات علمية رصينة، وصدفت أستاذًا وباحثًا تونسيًا ينشر فيها هو: (البشير السالمي)، فشدني الاسم، وتراسلت وتواصلت معه، حتى أصبحت مشدودًا لزيارة بلد فيه البشير السالمي، الذي أصبح صديقي وما زال، وتم لي ذلك في رحلة أسرية عام 1982م، فأصبحت تونس وجهتي السياحية طيلة ثمانية أعوام، حتى عرفت الكثير من مدنها ومنتجعاتها انطلاقًا من تونس العاصمة، فكانت بغداد ومجلتها العلمية البوابة التي دخلت منها إلى تونس. وفي العام 1986م تفضل علي نادي الوحدة السعودي بدعوة لمرافقة فريقه الكروي المعسكر في سوسة، ومنها كانت هناك مباراة ودية مع فريق تونسي في القيروان، فتحقق حلمي برؤية عاصمة الفتح، التي جعلها عقبة بن نافع منطلقه لفتح شمالي إفريقية، ودخلت مسجده التاريخي، وتعرفت على أصدقاء من السوالم في قبيلة (البشير السالمي) من ساكنة القيروان.
في ذلك العام كان المدرب الكروي الشهير (عبدالمجيد الشتالي) هو مدرب الوحدة؛ لهذا جاء الفريق إلى هنا. واستضافنا الشتالي في داره بطرف سوسة التي كانت تسمى (حضرموت) زمن الفتح الإسلامي، ورأيت وشاهدت (استديوهات) الإنتاج الفني للفنان السعودي (لطفي زيني) الذي جعل من سوسة متديرًا له عدة أعوام، وكنا نتابع وقتها في تونس نشاط الشاعر السعودي الكبير (طاهر زمخشري) الذي تدير هو الآخر تونس حتى وفاته، كما كنا نشنف الآذان بأغنية الفنان السعودي الكبير (طلال مداح) رحمه الله: (العيون التونسية)، من كلمات الفنان (لطفي زيني)، ومنها:
يا قمر تونس حنانك
في القلوب العاطفية
كمّلك ربي وزانك
بالعيون التونسية
كما كنا نقف بإعجاب على استثمارات سياحية لسعوديين في تونس، منها ما كان للشيخ صالح كامل - رحمه الله - بطرف تونس العاصمة، وغيره. وكنا نشهد في المدن التونسية آلاف السعوديين الذين جعلوا من هذا البلد الشقيق وجهة سياحية لهم، وكان لصحيفتنا هذه: (الجزيرة) مكتب فخم في عمارة كبيرة مطلة على نهج بورقيبة، الذي هو أكبر وأجمل (النُّهُج) في تونس العاصمة.
دفعني إلى هذا الكلام على تونس؛ وتذكُّر أيام جميلة فارطة في أنحائها، كانت لي ولعدد كبير من السعوديين الذي عرفوها في ذلك الزمن الجميل؛ مشهد متلفز لرئيس الحكومة التونسية (السيد هشام المشيشي)، والسفير السعودي بتونس (د. عبدالعزيز الصقر)، يصور حفل تسليم (4000 وحدة سكنية)، هدية من المملكة العربية السعودية لإخوتنا في تونس. هدية عملية لا كلامية. وفي الوقت نفسه تعمل المملكة على تجهيز 400 منزل هدية أخرى في القيروان، وتبني في هذه المدينة التاريخية مستشفى طبيًّا، كما أنها ترمم وتطور المدينة العتيقة بها (القصبة). هدية بل هدايا للشعب التونسي عملية لا كلامية.
نتذكر جيدًا أن المملكة العربية السعودية وقفت إلى جانب تونس في أحلك ظروفها منذ سعيها إلى الاستقلال، وما زالت. كل ذلك بدون تطبيل ولا تزمير ولا انتظار شكر من أحد. المملكة دعمت الجيش التونسي بـ(48 طائرة مقاتلة)، وسددت من ديونها (800 مليون دولار)، وضعت وديعة في البنك المركزي التونسي لدعم عملتها. وغير ذلك كثير. كل هذا الذي جرى ويجري من حكومة المملكة وشعبها لدعم الشعب التونسي أفعال ظاهرة شاهرة على أرض تونس الخضراء، وليس أقوالاً تذهب مع الريح. مع ذلك، فإن هذه المواقف الأخوية الصادقة لم يلتفت إليها أحد من الحاقدين والحاسدين من مناضلي الفنادق، وأولهم إعلاميون توانسة لهم أهل يستفيدون من الدعم السعودي، ومنهم (محمد الهاشمي صاحب قناة المستغلّة)، و(صالح الأزرق مذيع قناة الخُوار)، وغيرهما كثير. بل ليتهم سكتوا وكفُّوا أذاهم وغثاهم؛ لقلنا لهم شكرًا على السكوت.
ليس الهاشمي والأزرق من تونس الخضراء هما وحدهما من ينكر الفضل، ويعض في اليد التي تمتد لمساعدة مواطنيه ودعم بلده، ولكن (راشد الغنوشي) رئيس حزب النهضة الإخواني هو مضرب المثل في الغدر والخيانة وإنكار الجميل، وهو كبيرهم الذي علمهم هذه المواقف المخزية. يروي الشيخ (عبدالفتاح مورو) - وهو عضو قيادي في جماعة النهضة التونسية منذ بداياتها - أن قيادة المملكة العربية السعودية هي التي توسطت لدى الرئيس التونسي الأسبق (الحبيب بورقيبة) للعفو عن الغنوشي، وعن عدد من زعماء النهضة في صبيحة يوم تنفيذ حكم الإعدام فيهم، بموجب حكم صادر ضدهم. كان ذلك في أواخر أيام بورقيبة. بعد ذلك بأربع سنوات يذهب الغنوشي مع وفد الإخوان الخونة إلى بغداد لتأييد صدام حسين في غزوه للكويت، بل يحرضونه على العدوان على المملكة العربية السعودية..!
قال السرّاج الورّاق منذ أكثر من ثمانية قرون، وكأنه ما زال يعيش بيننا اليوم:
أَنكرُوا المعروفَ حتَّى
صارَ بينَ القَوْم مُنْكَرْ
وَتَناسَوْهُ فَدَعْ ذِكْ
رَكَ شيئاً ليسَ يُذْكَر