الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
كشف متخصص في العلوم الشرعية ما يحدث في الأزمنة المتأخرة من كثرة الجرأة على تكفير المعين وتبديعه بلا ضوابط شرعية، وقد ابتلي العلماء والناس بمثل هؤلاء السفهاء الذين يتصيدون الأخطاء، وينبشون في الكلمات والعبارات، بدون فهم ولا تحقيق، وبدون التحقق من وجود الشروط الشرعية التي يطلب الشرع تحققها، وانتفاء الموانع التي يطلب الشرع انتفاءها، لأنه قد يوجد العمل الكفري أو البدعي ولكن لا يحكم على مرتكبه المعين لا بالكفر ولا بالابتداع لعدم تحقق شروط هذا الحكم ولوجود موانع تمنع من ذلك (كالجهل، والتأول، والإكراه، الخطأ) ولكن هؤلاء الغلاة تارة يبدعون المعين، وتارة يكفرون المعين، مما أدى بهم إلى استحلال الدماء التي حرمها الله بسبب استحلالهم للأعراض، فما كان ينتقده غلاة التبديع على إخوانهم غلاة التكفير من الجرأة على الأعراض والدماء فقد وقعوا فيه أنفسهم،، فلا عرض لمسلم عندهم مصان، ولا حرمة يقفون عندها، ولا عذر عندهم لمخطئ ولا متأول، فوجدنا في بعض بلاد المسلمين التي ثارت فيها الفتن والفوضى (كاليمن، وليبيا وغيرها)، أن الذي كان يتهم القاعدة وداعش بالغلو بالتكفير والتقتيل، إذا به يسلك منهجهم بالغلو بالتبديع والتقتيل سواء بسواء، بل وتنظيم المليشيات المقاتلة ضد إخوانهم وبني جلدتهم من بلادهم.
وقال الدكتور عمر بن عبدالله المشاري السعدون كاتب العدل والمستشار الشرعي أن موضوع الإيمان والكفر والفسق، والسنة والبدعة، والحكم بها على معين من المسلمين، أمر خطير ودقيق للغاية، وهو من المواضيع التي كثر فيها الجدل، وتعددت فيه الآراء، وكثرت فيه مقالات الفرق قديما من (الخوارج، والمرجئة والمعتزلة، والكرامية، والأشاعرة)، وكثر الخلاف بين أهل الوعيد والإرجاء وبين أهل السنة والجماعة، وزلت به الأقدام، قديماً وحديثاً، وهذه المسألة تسمى بمسالة (الأسماء والأحكام)، وهو من مباحث العقيدة الإسلامية الكبيرة والخطيرة جداً، وينبغي ألا يتقحمه بالحكم على معين من المسلمين إلا جهابذة العلماء الراسخين، وفق قواعد وضوابط وشروط وانتفاء موانع، ومن المعلوم أن أول خلاف وقع في هذه الأمة هو الخلاف في الفاسق الملي قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب الاستقامة: (فأول مسألة فرقت بين الأمة مسألة الفاسق الملي فأدرجته الخوارج في نصوص الوعيد وخلوده في النار وحكموا بكفره ووافقتهم المعتزلة على دخوله في نصوص الوعيد وخلوده في النار لكن لم يحكموا بكفره..) وعليه تباينت الآراء في الأسماء والأحكام عند الفرق، وأطلق عليها مسألة «الأسماء والأحكام» بالنظر إلى شمول هذا الاسم لجميع مباحثها.
وشدد الدكتور السعدون على أن المنهج في التكفير والتبديع والتفسيق هو منهج واحد، فمن فسّق معينا بدون تأصيل شرعي محكم، فهو على منهج من بدّع معينا بدون تأصيل شرعي محكم، وهو أيضاً على منهج من كفّر معينا بدون تأصيل شرعي محكم، ولذلك فإنه يتحتم على من يتجرأ على سلوك أحد هذه المسارات وقذف الناس بها والحكم عليهم بلا علم صحيح مؤصل على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، لا بد أن ينحرف به الطريق ويزل به اللسان ويبوء بإثم ذلك كما جاء في حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أيما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما) متفق عليه، وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) متفق عليه.
ويؤكد الدكتور عمر السعدون أن المنهج المنحرف في «باب الأسماء والأحكام»، هو منهج واحد ونتيجته الحتمية واحدة وهي (استحلال الأعراض والدماء)، ولو اختلفت المسميات والقوالب، مع ما يجمع بين هاتين الفئتين في السلوك والأخلاق من التشابه الكبير، وهذا يبين خطر هذه الفئات الغالية على المجتمعات الإسلامية على دين وأعراض ودماء المسلمين حكاما ومحكومين، فوجب توعيتهم ونصحهم والإنكار عليهم، ومعاقبتهم وتأديبهم إن لزم الأمر ممن ولاهم أمر المسلمين في البلاد الإسلامية، نسأل الله أن يعصمنا ويعصم بلادنا والمسلمين من الفتن ويرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يختم لنا بخير لا فاتنين ولا مفتونين.