جابر بن محمد مدخلي
ما إن تعاين محافظة رجال ألمع عن كثب حتى تسلب لبّك الجبال الالتوائية المتسلسلة بتماسكها العجيب، وانصهارها في بعضها كما لو أنها طيور محلّقة تسير خلف قائدها. وما إن تقترب منها حتى تسلبك بحضاراتها، وقصورها التاريخية، وأشجارها المُعمّرة، ومدرجاتها الزراعية التي أطعمت الناس طوال قرون خلت.
ثم إنّ مكانها العالي الهام بين عدة محافظات جعلها في حقب زمنية منصرمة مطمعًا، وموقعًا مهمًا لكل المارّين بها من غُزاة وعابرين. ولعلّ صراع الغُزاة العُثمانيين فيها خلّف من ورائه قصصًا وملاحم متعددة، مهما استطاع كُتّاب التاريخ العُثماني طمس هزائمهم في هذه المنطقة إلا أنه سيظل مخطوطًا على ملامح الأمكنة، وانتصارات أهلها.
إذا ما خطوت يومًا على مرتفعات رجال ألمع فستعلم أن الأمكنة شواهد، والطبيعة المحيطة حمّالة للزمن، ومرسّخة جذورها في مسارب الأرض الباطنية حتى غدت اختلاطًا بالماء الذي يشربه الناس في كل بقعةٍ يسكنونها، وغدت جزءًا إنسانيًا مهمًا، وتآخت معه وصارا توأمين بينهما رباط مقدس هو المكان. ورجال ألمع تحتفظ حتى اليوم بهذه المشاهد التي اندلعت فيها على شاكلة آثار، وأماكن تاريخية استعانت بالإنسان على الإنسان لهزيمة الشر داخله، وإعادة كتابة التاريخ بانتصارات يدوّنها الزمن ويتلوها المكان عبر الذاكرة. وبما أنني اليوم أقف أعلى من البحر بكثير فعليّ أن أريكم مكنون وكنوز ومناجم هذا الجزء التاريخي، وسوف نكون معكم أعزاءنا القراء على مدار أربعة أجزاء ماتعة ممتعة، سنسعى من خلالها إلى تسليط الضوء على حِقب زمنية منصرمة، وحكايا، وأساطير، ستظل تُروى إلى ما تبقى من حياة البشرية...
أولاً: الأسطورة الألمعية
على مدار متابعتي وقراءاتي عن الأسطورة العربية تعلمتُ أنه كلما ارتفع الإنسان عن سطح البحر زادت حاجته للأسطورة، وكلما انخفض عنه ترسخت الأسطورة لديه كحكاية يومية، ومتاع ليلي، يقضي كبار السِن الجدّات والأجداد في جعلها حدثًا حكائيًا يترسخ مع مرور الزمن في الأذهان كما لو أنه جزء من الحقيقة، لا جزء من التراث فحسب.
وكما قال أديبنا إبراهيم طالع: «لن نخوض هنا في مفاهيم (الأسطورة - الخرافة) بالاعتبارين: الشعبي أو الأدبي.. بل سنوردُ أمثلة قليلة مما نعرفه منهما على أي اعتبار كان أسطورة أو خرافة..».
الذي أضاف على كلامه السابق ونحن بين إنصاتٍ له وتدوين عنه: «بلادُ العرب كانت من أكثر البلاد في هذا المجال، لأسباب منها:
- درجة التشتت السكانيّ العالية فيها، مما يستدعي مجتمعاتها وأفرادها إلى بناء حيواتٍ متخيلة أو شبه متخيلة لتعويض التوحّد وشبهه، على عكس الأماكن المكتظة سكانيًا، حيث تنبني أساطيرها وخرافاتها على تركيبة اجتماعية عالية التواصل فيما بينها، وبالتالي تقل علاقتها بالـ(ميتافيزيقيا)..
- اختلاط الأديان فيها مع قوى الطبيعة والمجتمع، مما يستدعي ربط الأساطير بالجن والقوى العليا، وتصديق العامة لها وتطويرها تراكميًا..
- إن القراءة والكتابة - تاريخيًا - في جزيرة العرب كانت قليلة، فيلجأ الناس إلى الصياغات الشفاهية في شتى مناحي حياتهم وأفراحهم وأتراحهم وتعبيراتهم، مما يستدعي تراكمها حتى ترتفع من واقع بؤرة صغيرة إلى درجة الأسطورة والخرافة المصدَّقة».
ويواصل أديبنا طالع روايته لنا عددًا من الأساطير العالقة إلى يومنا هذا في ذهنية جبال ألمع والسراة بأكملها، بل في تهامة قاطبة كنوع من الأساطير المشتركة التي تجمعهم على ثقافة واحدة. يقول: «من الأمثلة التي عرفناها هنا: امْسعْلاهْ (الغول في الثقافة الكتابية العربية).. فهي كائنٌ قد يأتي في شكلِ عجوزٍ تلبسُ الطَّفَشَة (غطاء الرأس من الخوص)، وقد تتمثّلُ في أشكال أخرى، وتعترض المرء فيتيه في سيره دون أن يعرف أين يذهب، ولذا يقولون عمّن ضلّ طريقه: ركْبَنْ علاهُو امْسِعْلاهْ..
ومنها:
أسطورة أو خرافة (قرن امْثَور)، حيثُ كانوا يفسِّرون رجفة الأرض (الهزات الأرضية) بأنها ناتجة عن كون الأرض على قرن ثور يسمونه (ثور الدنيا)، وأمامه أفعى ضخمة جدًا كلما حاولت الوثوبَ عليه تحرَّك فاهتزَّ قرنه، وبالتالي تهتزُّ الأرض بنا.. ولا شكَّ أن لهذه الثقافة علاقة بالإسرائيليات، وفي المهدِ الأصليّ للإسرائيليات كلام طويل ليس هنا أيضًا مجاله..
ومن الأساطير التي عُرفت عندنا في ألمع: الشّاعر والجنِّيّة..
فقد سرى الشابّ ليله مرسلًا شعَره الطويل، متكامل القيافة (لحافه - عطيفته - جنبيّته - لويّته)، في ظلمة ليل أعالي الجبال، وفي طريقه إلى مقصده فوجئ بتلك الجميلة تضيء حالك ليله، وسألته: أأنت الشاعر؟
- نعم.
- ألك في مغالبتي ومناقضتي؟!
واتفقا على أن يبدأ هو - لعلمه الداخليّ بأنها جنِّيَّة - فقال (البيت الأول له والثاني للشاعرة وهكذا):
«يالله انّيْ طلبتِكْ والْتهمْتـِكْ
تِطْفيِ النارِ الى شبّنْ لَظاها
والله انيْ كما بيرٍ غزيـرهْ
جمّتُو تِغرقِ السايقْ بماها
وانا عندي عجالشْ والغروبِ
والبقرْ دام ليْ ربي بقاها
والله اني كما دخنٍ مسقى
علّو الربّ من عالي سماهـا
وانا عندي صَريمُو والخبيطِ
خمسة ايامِ ما يوطي شقاها
وانا فانا كما جند الثريا
ياكل الزرع ويْباري عفاها
قلتِ وانا كما ريحٍ قويـّهْ
يَنسِفِ الجندِ يذلِفْ من شفاها
والله انّي كما نخلهْ طويلـهْ
ليس حيٍّ ينال اعلى جناها
قلت وانا كما صقرٍ مربـّى
يخطفِ الرزقِ من عاليْ سماها
وانا ترْني كما مهرهْ جموحٍ
تردعِ الغَمرِ لا يركبْ علاها
وانا عندي لجامِشْ والعِنانِ
ذا يردّ الجموحِ اعْلى قفاها»
ثمّ طمعتْ في شاعرها فقرّرت أن تطلبه معها إلى بلادها (بلاد الجن):
بالله هيّا معي روّحْ بلادي
ديرةِ الخيرِ ما يِقطِعْ عَفاها
فأنقذ نفسه بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -:
والله مانا مروّحْ في بلادٍ
دِيرةٍ وا محمّدْ لمْ يطاها
فإذا هو وحيدٌ بعد أن خفتت شاعرته (يقولون: خَفَتَ الجني: اختفى، حيث يزعمون لقاءاتهم بالجن، وعند تواريه يعبرون عن ذلك بالخفوت..).
ثم توقف أديبنا طالع عن الكلام وأخرجنا لنقف أمام منزله الشامخ فوق قمة الجبل وأشار تجاه جبلٍ آخر يقف عليه (حصن شهران) وقال: «أمامَ بيتي يقعُ (حصْنُ شهران) وكان مقرًا لشيخ قبيلة (بني ظالم الألمعية)، وشهران هنا: اسمُ أفعى ضخمة كانتْ تحرسُه، وقدْ وقعتْ فيه أحداث ظريفة رغم حراستها له، وحينَ مات الشيخ ناحتْهُ أخته في يومِ النياحة شعرًا وبلحن شجيّ حزين قالت:
شَهرانَ الاَ يا نعاكْ
ما ليْ ولا اسمعْ بكاكْ
على الذي قدْ بناكْ
وبالمصبَّبْ حماكْ؟!»
ثم عاد بنا إلى الداخل ونحن نتبعه وهو يقول: «ولا أذكرُ مكانًا في ألْمع ليس مكتظًا بموروث الأساطير والخرافات. نظرًا إلى صعوبة تضاريسها وتنوعها، وما كانتْ تتمتع به سابقًا من قلة الاتصال بالآخر، فكانت الثقافة فيها دائرية ناتجة عن تراكم الحياة الفردية والجماعية والقبلية والعشائرية، وقد نستطيع ذكر الكثير منها لو أردتم، ونتحفظ على الكثير لأسباب اجتماعية وسواها».
ولم ينته بنا المطاف ونحن نسير باتجاه المرتفعات والجبال وقد وضع أديبنا طالع بين يديّ كتابه «الشعر الشعبي.. نبض حياة» وما إن جلسنا أمام الجبال الشاهقة حتى أحالني إلى الصفحة رقم 73 من كتابه الماتع الذي يدوّن أسطرة الشعر.
ولمكانة الشِعر ومقدرته كموروث تأثيري، وتعبيري، وصوت قَبلي مؤثر على الأحداث، والمعارك، والحروب وجدتُ بهذا المرجع، ومراجع كثيرة، ومؤلفات، ومخطوطات، ووثائق كتبت عن رجال ألمع وما حولها بأنه كان له تأثير أسطوري بل يجعل الشاعر ذا قصائد خالدة لها وقعها، وأسطورتها الأكثر تصديقًا، وتوثيقًا لما سنراه حول مقدرة أهل هذه البقاع وغيرها منذ القدم حتى يومنا هذا على أسطرة الشِعر فعلًا.
وبعودتي إلى الصفحة رقم 73 من كتاب «الشعر الشعبي.. نبض حياة» وتحديدًا في الجزء الذي عنونه المؤلف بـ»أسطرة القدرات وشيطان الشعر»
يقول أديبنا طالع: «أسطرة القدرات والظواهر لازمة إنسانية لتفسير كل علّة مجهولة لا يدركها الإنسان. فقبل إدراك العلة الطبيعية للمطر كنّا نعرف هنا - مظهر (النُّشْرَة) وهي: ادّعاء المقدرة على استمطاره من فئة يستغلون خبراتهم في معرفة المنازل والفصول والمواسم، مقنعين المزارعين الذين تهيئهم شدة الحاجة إلى الماء الذي يقل هنا للقناعة بقدرات أولئك. وكان كل مرض نفسيّ أو احتلال عصبي هو من الجن أو السحر أو العين، وانفصام الشخصية «الشيزوفرينيا» كانت نوعًا من التّلبّس.. وهذا يعود إلى التصور العلميّ المطلق الملازم للإنسان ما دام إنسانًا، ولا نزال نقرأ كتب الأساطير عن عرّافات البيت الأبيض حتّى اليوم.
والمتأمل في موقع الجزيرة العربية يجد مجالًا لتحليل حياة أهلها في جميع المجالات. فهي مغلقة ببحارها الثلاثة، وبصحرائها من الشمال. لذلك نجد أنّ الأسطورة كانت ضرورة كبديل عن الاتصال الثقافي لسكانها، من أجل تبرير الظواهر والقدرات، فكانوا كثيرًا ما يلجؤون لتفسير الظواهر المرضية التي لا يعلمون لها أسبابًا مباشرة إلى تفسيرات «ميتافيزيقية» خفيّة كالجنّ والسحر والعين، ووجدنا أحد المحبين القدامى يتحدّى العرافين في شفائه من حبه بقوله:
«وهبتُ لعراف اليمامة حكمة
وعراف نجدٍ إن هُما شفياني»
وفي هذا دلالة على قوة دور العرافين وسطوتهم لدى مجتمع الجزيرة العربية. وتزيد درجة الأسطورية كلما زادت المنطقة عزلةً كما كانت (ألمع).
والقدرات الشاعرية عجيبة فعلاً؛ لذا لجؤوا إلى تبريرها بالقرين من الجن.
ولقد كانت بيئة (ألمع) من أكثر البيئات قابلية لأسطورة حضور الجن في الحياة.. فهي كثيرة الشجر، عميقة الأودية، عالية الجبال، متفرقة السكان، مما يهيئ الحالة النفسية للبحث عن تفسير وفاعل لكل فعل، ولكل صوت في الظلام الدامس الهادئ، وكل حيوان، أو طائر غريب.. لذا كان القرين هو التفسير الوحيد لقدرة الشاعر الخارقة إزاء قدرات العامة، ويلعب ذكاؤه دورًا مهمًّا في توظيف مشاعرهم، فإذا بدت عليه علامات الانفعال تخيلوا بأن القرين قد شغفه.. ومن الشعراء هنا من يزعم أنّه شُقِيَ الشعر من قبل الجنّ، فتأتيه امرأة لتخيِّره بين قدح من عسل أو آخر من لبن، فإن شرب العسل صار شاعرًا، وإن اختار اللبن صار حافظًا القرآن الكريم، وقد يكون هذا المشهد في إحدى الخليّ، وقد يُحدث له حلمًا أثناء نومه».
وبانتهاء الجزئية الأولى حول بعض الأساطير الألمعية أحالني المرجع ذاته وأنا أتصفح أوراقه إلى شخصية إبداعية شعرية متفردة، ما زال أثرها وتأثيرها باقيًا إلى يومنا هذا، وهو ما سنقرؤه ونشعر به في التالي...
ثانيا: الأدب الشعبي الألمعي أثره وتأثيره (الهازمي) نموذجًا
في الجزئية الأولى من هذا الملف أتينا على شأن الأسطورة باعتبارها حكايات مروية ومؤثرات شعرية، أما الأدب الشعبي الألمعي فهو مسيرة شعرية إبداعية، لها مكانتها وحفاوتها ورسوخها الضارب في التاريخ. فبينما كان الشعر العربي الأصيل والقصيدة محافظة على أعمدتها كان في مكان من هذه الأرض الرحبة رجل يقيم أعمدته الشعبية، وكما يقول أديبنا «طالع» الشعر الشعبي الحقيقي هو: «غناء الحياة خلال ممارستها عن طريق اللغة المعبرة مضمونًا لغويًا ولحنًا».
وقد بدا لي جليًا وأنا أتصفح سيرة «الهازمي» أنه عاش في مضماره الشعري. يقول ليمدّ الناس بالحياة، ويعطي شجنه وحواسه لكل من حوله، بل يرمي بسهام قصائده الخصوم الغرباء على المكان والإنسان.. وكان الغزاة الأتراك يخشونه أيما خشية. ولأنه كان لهم بمرصاده الشعري المؤثر بقيت مسيرته مرويّة في كل مجلس نمضي إليه، وكل جبل ومكان نصعده، أو نهبط منه. تذكروا هذا الاسم معي: الشاعر الشعبي: محمد بن علي بن مانع الهازمي القائل في أخلد قصائده التي صورت الانتصارات لرجال ألمع على الغزاة الأتراك:
«نسلب الترك ما اخذوا سلبنا
كم قتيل ولم يعزى بسلبه
من بنادق ومن غالي اللباس»
لم يكن الهازمي شاعراً فحسب، بل كان فلكيًا، ومُلمًا بمواسم الزراعة والوسمية التي يعتمد عليها المزارعون بشكل أساس.
وُلد الهازمي -رحمه الله- في عام 1282هـ بـ»قلة اِبْر عبد المتعالي» جبل قيس، وعاش مائة عام، قضاها بين الحياة الشاعرية والبطولات أمام الغزاة الأتراك، وقد أصيب في رجله أثناء إحدى معارك قبيلته مع الغزاة الأتراك، وهي آخر معارك عهد الدولة العثمانية بهذه الديار. وكانت المعركة في أعالي جبل قيس، وقد قُتِل فيها من هذه القبائل حوالي: 35 رجلاً حسب رواية الشيخ/ محمد بن حسن عبد المتعالي، الموثقة في كتاب مخطوط من تأليف الأديبين: إبراهيم طالع، وعلي مغاوي. كما ورد فيه كذلك ووفق رواية الشيخ نفسه: «إن النساء اشتركت في هذه المعركة كذلك».
كما شارك (الهازمي) في الغزوات في بداية توحيد المملكة العربية السعودية، وتوفي أعرج نتيجة تلك الإصابة ووقوعه بعدها من على راحلته وهو في طريقه للعلاج مما ضاعف الكسر، وكانت وفاته في أواخر عام 1381هـ.
وفي كسر ساقه قال:
«ساق إبر مانع كسيره
ما عاد تمشي يسيره
ولها دروب عسيره
يا ذا يداعي محمد
ما كلفك بالدعاوي»
لقد كان أشعر شعراء عسير كما قال عنه من عاصره ومنهم الشعراء الرموز: ابن عشقة، وامثوابي، وامغريبي، وغيرهم ممن سُمِع منهم.
يقول عنه الشاعر المعروف: علي بن عبدالله الثوابي: «لم يمر شاعر، ولن يمر علينا كشاعر عسير وقائد شعرائها المرحوم: محمد بن مانع الهازمي».
ونُقِل عنه أنه خلال مرضه «كان ينفعل إذا سمع السمرة ويصرّ على ذويه أن يحملوه على (قعادة) لحضور المسمر». وكان مشهورًا إلى جوار فحولته الشاعرية المتفردة بالحسابة وهي: الفلكية، وقيل إنه وضع للسنة مخططًا على حجر في قمة الجبل، بحيث قسّم الحجر إلى 28 حقلاً بحسب منازل السنة، ولا يتقاطع مشرق الشمس خلال منازل السنة بين حقلين، ولم يُعلم حتى الآن العثور على بقايا حجره التي ذكرها الآباء. وكان يجيد قراءة وكتابة عصره. غير أنه كما يقال بأن معظم ما كان لديه انتقل إلى أحد أقاربه الذي استخدمه ثم توفي لتُعدم بعده تلك المخطوطات الثمينة؛ لأن بعض الناس بدؤوا ينظرون إلى من يمتلك تلك المخطوطات من زاوية (الشعوذة) مما أفقدنا كثيرًا من المخطوطات له، ولغيره!
ونورد هنا نماذج من شعره. قال بمناسبة الذهاب إلى إحدى المعارك:
«يالله يا عالم بما تخفي الصدور
هب لنا حظ ونور
واجعل الشمّات معكوسٍ ظنونه
لا بتي فاعبوا لكل ما يدور
لبسنا عوج الندور
والله ما نطلب من الصاحب معونة»
قد يكون (الهازمي) شاعرًا شعبيًا لكنه استطاع أن يبتكر ما يعيد الشعر العربي ولو بصياغته الشعبية إلى الموشحات. ويمكننا الاستدلال على ذلك بما قاله في نظم (قاف) تلميذه الشاعر: علي بن عبدالله الثوابي:
«يالله طلبنا سامع الجابه
ما نبتدي في قول إلا به
سبحان ذا منه القدر يجري
مما خلق ليلٍ والاياما».
«تغفر لي إلى امسيت في حابه
والطين من فوقي يحثى به
وامسي لحالي ظلمة القبر
وقدِ الصِّلي من فوقي ارداما»
وبما أن الهازمي أبدع في (القاف) أيما إبداع فقد نظمه بتجلٍّ واعتبره كفن يستحق العناية. ويمكننا قراءة هذا من خلال عباراته ذات العذوبة الفنيّة، والحسيّة في (القاف) الذي نظمه للمرحوم (أبو طايف بن ناصر السلمي - من قرية المرواح) إذ يقول:
«يالله يا ذا يرزقِ المتوكلِ
يا ذا يغاني الطير في صمت الحِلي
تحفظ عبادك في برورٍ والبحرْ
فكل معدومٍ مع الله في الوجودْ»
وأنا بر من هو يكرم امضيفان واسم الهاقلِ
من داعيَ آل امسلمي بحرٍ مطيفْ
خالي محمد في المطالعْ يصطلي
وقد المصبّبْ كالبرْدْ بين القنيفْ
- ولي سميِّ هوْ حليمٍ فيصلِ
الشيخ ابو طايف خزام العايلِ
حيدِ المرازهْ تا بنايفْ تهللِ
هذا ونبني القاف بنْيِ احسانِ
بناي قصرٍ شَيدَوه اخواني
راعيه وصّاني وصاة الوالدِ
يحلى على ريقي كما ذوق امعسلْ
مع آل ويْمنْ في الشَناع امْنزَلِ
في حَلَوانٍ معدنِ امجرامهْ»
وبالعودة إلى مراجع استقاء هذه المادة يروي لنا مؤلف كتاب «الشعر الشعبي.. نبض الحياة» الأديب إبراهيم طالع الألمعي قائلًا: «إنّ هذا النوع من الشعر هو الجذر الأصلي الذي بنى عليه المهاجرون العرب إلى الأندلس ما يُسمى بالموشحات الأندلسية، وشعر المخمسات وسواها، على اعتبار أنهم يحنُّون إلى جذر غنائهم العربيّ في موطنهم الأصلي».
وقوله هذا يجعلنا نشير لأهمية توارث الشعر الشعبي كفن الذي ما يزال إلى يومنا هذا يشدّ سامعيه ويحرّكهم. وقد برز العديد من الشعراء الشعبيين في هذه المنطقة، منهم: محمد بن ناصر بن فهدان، وعلي الخشيلي، ومحمد المنشلي. وتلاهم من الجيل الحالي: محمد هادي الألمعي، عبدالله عامر، إبراهيم هادي، وسعد هادي، وإبراهيم آل عبده، وامغريدي، وعبدالرحمن الزيداني، وإبراهيم أبو خيرة، وسواهم.
وأمام هذه الحياة الأسطورية والشعرية المليئة بالحياة، والمُحاطة بجمالياتها ومؤثراتها، لا يمكننا القول إلا ما يثبت حقيقة ما رأيناه عيانًا في أعالي رجال ألمع الخلاّبة يتحدث المكان كما يتحدث الإنسان.
** **
- رجال ألمع