إعداد - خالد حامد:
على مدى العقدين الماضيين، حدَّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصالح بلاده بطرق لا تتوافق مع مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين وأي تحسين مستدام للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا يتجاوز التقدم في الحد من التسلح (مثل التمديد الأخير لمعاهدة ستارت الجديدة) سيتطلب واحدًا من اثنين من التنازلات: إما أن تعترف الولايات المتحدة رسميًا بالنفوذ الروسي في المجال المتميز الذي كان يحظى به الاتحاد السوفيتي السابق أو أن يقرر الرئيس الروسي أن مصالح بلاده لا تواجه أي تهديدات من قبل الغرب.
كلا التنازلين من غير المحتمل أن يتحقق أي منهما في المستقبل القريب.
لقد اقترب صانعو القرار في الولايات المتحدة رأوا أن قرار واشنطن البقاء في أوروبا لمواجهة العدوان السوفييتي المحتمل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية قد أنقذ أوروبا الغربية من هيمنة موسكو. بالنسبة للمسؤولين الأمريكيين، إذن، كان استمرار الهيمنة الأمريكية على الأمن الأوروبي من خلال الناتو ضروريًا للحفاظ على السلام في الأوقات المضطربة التي أعقبت الحرب الباردة بعد أن أدى اندلاع الحرب في يوغوسلافيا إلى تفاقم هذه المخاوف، وساهم في تغذية الرواية القائلة بأنه بدون الولايات المتحدة، فإن النزعات القومية سوف تخرج من القمقم ويمكن، بسبب ذلك، أن ينشب الصراع في أي مكان في المنطقة.
الولايات المتحدة سعت إلى طمأنة السوفييت أولاً ثم الروس بأن الغرب لن يستغل نهاية هيمنة موسكو على أوروبا الشرقية لتقويض أمن القوة العظمى السابقة. وعندما أبلغ الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الرئيس الروسي بوريس يلتسين في سبتمبر 1994 بخطط المضي قدمًا في توسيع حلف الناتو، قال له: «لا أريدك أن تصدق أنني أستيقظ كل صباح لأفكر فقط في كيفية جعل دول حلف وارسو جزء من الناتو، مضيفا، ليست هذه هي الطريقة التي أنظر بها ولكن ما أفكر فيه هو كيفية استخدام توسع الناتو لدفع الهدف الأوسع والأعلى المتمثل في الأمن والوحدة والتكامل الأوروبي وهو هدف أعرف أنك تشاركنا فيه. «
يلخص هذا الاقتباس بإيجاز الاختلافات بين الولايات المتحدة وروسيا خلال رئاسة يلتسين. بالنسبة للولايات المتحدة، كان الناتو الأداة المناسبة لتحقيق الاستقرار والأمن الأوروبيين لأنه مكّن الولايات المتحدة من الإمساك بزمام الأمور دون إلحاق الضرر بروسيا من خلال استغلال انهيار حلف وارسو. لكن القيادة الأمريكية كانت على وجه التحديد هي التي جعلت الناتو الأداة الخطأ من وجهة نظر روسيا. يلتسين، على الرغم من أنه كان من الممكن أن يوافق على هدف كلينتون المتمثل في تعزيز الوحدة الأوروبية، إلا أنه لم يشارك نظيره الأمريكي في اعتقاده بأن الناتو هو أفضل وسيلة لتحقيق ذلك الهدف. تحت قيادة الولايات المتحدة لحلف الناتو، كانت الشراكة الصغيرة هي أفضل خيار متاح لروسيا.
راهن يلتسين على إدخال بلاده إلى الغرب ومنذ معركته السياسية المحلية مع ميخائيل جورباتشوف في الأشهر الأخيرة من الاتحاد السوفيتي، سعى يلتسين لكسب التأييد من خلال كونه أكثر تأييدًا للغرب والديمقراطية والسوق الحرة من الزعيم السوفيتي جورباتشوف. كان يلتسين أضعف من أن يعارض السياسات الأمريكية، لذا فقد أخذ ما يمكن أن يحصل عليه، ليس فقط المساعدة المالية من الولايات المتحدة وحلفائها والمؤسسات المالية الدولية ولكن أيضًا من خلال عدة إشارات من الغرب على أنه كان يُعامل يلتسين على قدم المساواة.
خلال فترة التسعينيات، رأى بوتين أن روسيا تعرضت للإذلال من قبل الغرب. كان يعتقد أن الغرب عمل على فرض رؤيته للنظام العالمي. حينها أعلن بوتين أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين». لم يكن بوتين يريد إعادة إنشاء الاتحاد السوفيتي، ولكن بدلاً من السعي إلى دمج روسيا في الغرب، كما فعل سلفه المناهض للسوفييت بوريس يلتسين، لتلعب دور الشريك الأصغر للولايات المتحدة، سعى بوتين إلى بناء قوة عظمى مستقلة، قوة يمكنها التعامل مع الغرب بشروط موسكو الخاصة والسيطرة على جوارها المباشر.
في وقت مبكر من رئاسة بوتين، لم تكن سياساته معادية بالضرورة ولكنها سعت إلى تحرير روسيا من التدخل الغربي، وخاصة الأمريكي. من منظور أمريكي، كان توسيع الناتو، حرب كوسوفو عام 1999، الانسحاب الأمريكي الأحادي الجانب لعام 2002 من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية (معاهدة ABM)، حرب العراق عام 2003، ودعم «الثورات الملونة» 2003-5 في جورجيا، قرغيزستان، وأوكرانيا، بمثابة سياسات منفصلة.
لم ير المسؤولون الأمريكيون أنفسهم على أنهم يضرون بالمصالح الروسية، بل على أنهم يعزّزون الديمقراطية وسيادة القانون في جميع أنحاء أوروبا الوسطى والشرقية، وحماية سكان كوسوفو من نظام ميلوسوفيتش الوحشي، وخلق القدرة على الدفاع عن الولايات المتحدة وحلفائها من تهديد الصواريخ البالستية الإيرانية والقضاء على إمكانية قيام الرئيس العراقي السابق صدام حسين بتهديد العالم بأسلحة الدمار الشامل، ودعم الإصلاحيين الذين يحاولون بناء الديمقراطية في الدول الهشة.
اختلف المنظور الروسي بشكل صارخ عن نظيره الأمريكي. فقد راقب المسؤولون في موسكو الولايات المتحدة وهي تقوم بتوسيع تحالفاتها بما في ذلك الأراضي التي كان يسيطر عليها الاتحاد السوفيتي سابقًا، مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا. وعندما خاض الناتو الحرب ضد صربيا في عام 1999، فعل ذلك على الرغم من الاعتراضات الروسية ودون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حيث كان وضع روسيا كعضو دائم يسمح لها باستخدام حق النقض ضد هذا الإجراء. بعد أربع سنوات فقط، خاض الناتو حربًا ضد العراق، مرة أخرى دون تفويض من مجلس الأمن، وتجاهل مرة أخرى المعارضة الروسية (وكذلك الفرنسية والألمانية).
دائماً، كانت هناك أوكرانيا، التي حذَّر يلتسين كلينتون من أنه لا يمكنه قبول عضوية هذه الدولة في الناتو وسعى إلى اتفاق خاص مع الولايات المتحدة تتعهد فيه واشنطن أنها لن تسعى لتحقيق ذلك وأدت المعارضة الفرنسية والألمانية لدخول أوكرانيا وجورجيا حلف الناتو إلى استبعاد الفكرة عن الطاولة. من خلال خوض الحرب مع جورجيا في عام 2008 وغزو أوكرانيا في عام 2014، أكد بوتين ما حذَّر منه بيرنز: لن يتسامح بوتين مع تجاوز بعض الخطوط الحمراء التي يُنظر إليها على أنها تشكل تهديدًا كبيرًا لمصالح روسيا.
بدا أن هناك فترة راحة قصيرة من هذه الصراعات مع سياسة «إعادة الضبط» التي اتبعها الرئيس باراك أوباما مع الرئيس الروسي دميتري ميدفيديف. آنذاك، أوضح أوباما أنه لن يروّج لعضوية أوكرانيا وجورجيا في الناتو وتخلي عن خطة الدفاع الصاروخي التي أطلقتها إدارة بوش لصالح نشر دفاع صاروخي مختلف مصمم بشكل أوضح لمحاربة إيران. في غضون ذلك، وافقت روسيا على دعم عقوبات أكثر صرامة على إيران لحمل طهران على التخلي عن سعيها لامتلاك أسلحة نووية. الأهم من ذلك، سمحت موسكو للولايات المتحدة بإنشاء ممر جديد لإعادة إمداد أفغانستان من خلال المجال الجوي الذي تسيطر عليه روسيا، مما يعني أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد بالكامل على باكستان. كما اتفق البلدان على أنه من مصلحتهما المشتركة صياغة اتفاقية جديدة للحد من الأسلحة، معاهدة ستارت الجديدة، والتي من شأنها أن تقلِّل من عدد أسلحتهما النووية الإستراتيجية وتوفر إجراءات التحقق لدعمها.
في عام 2013، تصدرت تسريبات إدوارد سنودن لوثائق وكالة الأمن القومي وحصوله على اللجوء في روسيا عناوين الصحف. تداعت العلاقة بين موسكو وواشنطن عندما قام بوتين بضم شبه جزيرة القرم وبدأ حربًا أهلية في شرق أوكرانيا في العام التالي. رداً على ذلك، فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات على روسيا.
أي محاولة من قبل دونالد ترامب لتحسين العلاقة مع موسكو كان محكوما عليها بالفشل منذ البداية بعد مزاعم تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، ولم يكن ترامب يرغب في أن يُنظر إليه على أنه يأتمر بأمر بوتين، خاصة في عدد من المجالات الرئيسية. ظل المسؤولون الأمريكيون ملتزمين بمواصلة سياسة الولايات المتحدة المتمثلة في توفير الطمأنينة لجيران الناتو الشرقيين وتعزيز الردع في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، بما في ذلك تكثيف الدوريات الجوية والبحرية في منطقتي بحر البلطيق والبحر الأسود بالإضافة إلى تعزيز التدريبات العسكرية وعمليات التناوب على الانتشار العسكري.
على الرغم من أن سلفه رفض الالتزام بتمديد معاهدة ستارت الجديدة، اتفق بايدن مع الروس على تمديد مدته خمس سنوات بعد فترة وجيزة من توليه منصبه.
في عام 1993، قرر بيل كلينتون دعم يلتسين كأفضل أمل لشراكة أمريكية روسية وبعد ثماني سنوات، نظر جورج دبليو بوش في عين بوتين وخرج معتقدًا أنه حدق في روح الرئيس الروسي. تولى أوباما منصبه في عام 2009 سعيا لإعادة العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا مع نظيره في فترة الولاية الأولى، ميدفيديف. بعد ثماني سنوات، بدأ ترامب رئاسته تحت سحابة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، لكن يبدو أنه يصدق ما قاله بوتين له.
ولكن سرعان ما أفسحت الآمال الكبيرة المبكرة في العلاقات الأمريكية الروسية الطريق أمام حقائق مريرة. فقد خلقت حملة قصف الناتو عام 1999 ضد صربيا أسوأ نزاع بين القوتين خلال سنوات كلينتون ويلتسين. في عام 2008، وتركت الحرب الروسية الجورجية تلك العلاقة في حالة يرثى لها منذ قرار الولايات المتحدة عام 2003 خوض الحرب في العراق. في وقت مبكر من ولاية أوباما الثانية، أمر بوتين بغزو أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، مما دفع الغرب إلى فرض عقوبات وتعزيز وجوده العسكري في أوروبا الشرقية. وبغض النظر عن تقارب ترامب الغريب مع بوتين، استمرت العلاقات الأمريكية الروسية في التدهور خلال فترة رئاسته.
مع بدء بايدن رئاسته، ظهرت من جديد قضية أوكرانيا، واعتقال زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني، وهي ليست سوى بعض القضايا التي قد تعيق أي عودة إلى علاقة أكثر إيجابية بين الولايات المتحدة وروسيا. ومن المتوقع أن الرؤى المتضاربة لموسكو وواشنطن ستظهر بالكامل في سنوات بايدن.
إن العلاقات الأفضل مع دولة أخرى ليست أبدًا غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة لتعزيز المصالح الوطنية، وفي الوقت الحالي، تحدد الولايات المتحدة وروسيا مصالحهما بشكل مختلف تمامًا ومن المرجح أن تظل الأجندة الثنائية للعلاقات الأمريكية الروسية ضعيفة للغاية في المستقبل المنظور.
** **
- جيمس جولدجير هو زميل في معهد بروكينغز وأستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية
- عن دورية (فورين أفايرز) الأمريكية