«إن كسر الزمن هو الرسالة الكبرى لما بعد الحداثة»
اليزبت ديدز إريث
تعتبر حالة ما بعد الحداثة حالة مستمرة ومكتسحة لمناح عديدة في حياتنا المعاصرة، حالة ما بعد الحداثة مستمرة وتتوازى في خطوط تأثيرها في الفكر والفنون والسياسة والاقتصاد.
نضجت حالة ما بعد الحداثة في الدول المتقدمة كالولايات المتحدة الأمريكية (التي خرجت من جامعاتها لتكون سلوكاً سياسياً كما حدث في عهد أوباما ، وطبقها ترامب في بعض سياساته الإعلامية بالتشكيك ببعض الحقائق ، كما أشار Aaron Hanlon 2018 ) (1) وكندا ودول أوروبا واليابان وكوريا والصين ، وتمددت إلى الدول الأخرى بفضل سرعة التقنية والإعلام والعولمة.
وقد تطورت وتغلغلت في الفنون والآداب والعمارة والموسيقى والسينما والأزياء والموضة بكافة أشكالها ، أكثر منها في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتعليم ، وساهمت التقنية والإعلام ووسائلها الحديثة والسريعة في نشرها كحالة متنوعة وثرية في الفنون والسرد والشعر ، كما تشكلت وتنوعت حسب ثقافات وقيم الدول والشعوب ، وأصبحت ما بعد حداثات متنوعة وأفرزت بل فرخت ما بعديات أخرى تمثلت فيما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعد الاستعمار والنسوية وغيرها.
ونحن في هذه الدراسة سوف نركز على تطور أشكال ما بعد الحداثة في مجال القصة والسرد الروائي والمسرحيات ونحاول استعراض أهم تعاريف ومفاهيم ما بعد الحداثة من رواد ومنظري ما بعد الحداثة وربطها في مجال السرد الروائي والقصصي قدر الإمكان؛ للتعرف على خلفية ومكونات ما بعد الحداثة في السرد.
تعريفات حديثة لما بعد الحداثة
فرض مفهوم ومصطلح ما بعد الحداثة نفسه في ثقافات الدول المتقدمة، وخصصت له تعريفات في قواميسها ودوائر معارفها في اللغات المهمة كالانجليزية والفرنسية وربما لغات أخرى ، اعترافاً منها بأهميتها وانتشار استخدامها كلغة وقيم وثقافة وسلوك.
يعرفها قاموس ميريم الأمريكي Merriam - Webester بأنها: «أياً من الحركات المختلفة كرد فعل على الحداثة التي تتميز عادة بالعودة إلى المواد والأشكال التقليدية، كما هو الحال في الهندسة المعمارية، أو بالإشارة إلى الذاتية الساخرة والعبثية كما في الأدب، أو تتعلق بها أو كونها نظرية تتضمن إعادة تقييم جذري للافتراضات الحديثة حول الثقافة والهوية أو التاريخ أو اللغة». (2)
ويعتبرها قاموس كمبرج «أسلوب من الفن والكتابة والموسيقى، والتي تتضمن ميزات من عدة فترات مختلفة في الماضي أو الحاضر والماضي». (3)
وتعرفها دائرة المعارف الوكيبديا «بأنها تعبر عن حالة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية تتميز بالشعور بالإحباط من الحداثة، ومحاولة نقد هذه المرحلة والبحث عن خيارات جديدة وكان لهذه المرحلة أثر في العديد من المجالات». (4)
وتكاد تتفق تعاريف ومفاهيم ما بعد الحداثة بأنها جاءت كرد فعل ضد الحداثة ، وأنها حالة تشكيك بالسرديات الكبرى واليقينيات ، وان الحقيقة نسبية ، وتداخل الحدود بين الفنون ، واستخدام أساليب التناص والسخرية والتقطيع والتشظي وما وراء السرد . مع ملاحظة عناية هذه القواميس ودوائر المعارف بما بعد حداثة الفن والأدب.
ما بعد الحداثة كمصطلح أدبي
يكشف إيهاب حسن (2018) أن مصطلح ما بعد الحداثة نشأ وسك في حقل النقد الأدبي، وتطور استخدامه في حقول معرفية متعددة كالعمارة والفلسفة وعلم الاجتماع.
ويوضح حسن أن أول من استخدم المصطلح هو الإسباني فيدريكو دي اوتيس من خلال كتابه مختارات من الشعر الاسباني والاسباني الأمريكي عام 1934، ثم استخدمه دودلي فيتتس في كتابه مختارات من الشعر الأمريكي اللاتيني المعاصر عام 1942، ويعتقد حسن أنهما يشيران إلى رد فعل ثانوي على الحداثة قائم داخلها». (4)
ويشير تشارلز جينكس C.Jencks أحد منظري ما بعد الحداثة في مجال العمارة ، أن المصدر الأساسي الذي استقى منه مهمة النظري لمفهوم ما بعد الحداثة هو النقد الأدبي، وان إيهاب حسن كان بالفعل من عمق مفهوم ما بعد الحداثة وجعله أكثر استقرارا ، ويتفق معه في رأيه جان فرانسوا ليوتار - أبرز منظري ما بعد الحداثة - في كتابه «الوضع ما بعد الحداثة 1979 الذي يؤكد أن عمل إيهاب حسن» أدب الصمت The Literature of Scilance هو المصدر الذي نبهه إلى أهمية مفهوم ما بعد الحداثة. (هارفي 2005) (5)
الفن والأدب صدى للبيئة ومتغيراتها وتطوراتها في كافة المجالات
فن السرد أكثر الفنون التي تتغير وتتطور في الشكل والمضمون للمتغيرات المحيطة ، وتكاد تكون الرواية من أكثر الفنون تجدداً وتغيراً؛ وذلك لمرونة محتواها وتقنياتها وسرعة تأثرها بالبيئة المحيطة المتجددة.
وإذا كانت رواية الحداثة تركز على القيم والمعاني في عالم الفوضى، ويحرص الروائي في زمن الحداثة على تحقيق حالة التوازن والانسجام والوحدة من خلال الإبداع الأدبي والفني، والسعي إلى تحقيق النظام الفني لتحقيق الجمال المنشود في عمله ، فان الروائي ما بعد الحداثي يغفل وجود المعنى وسط عالم عبثي يفتقر إلى العمق والدلالة ، فيلجأ إلى المحاكاة الساخرة للبحث عن المعنى مستخدماً أسلوباً مستعاراً وغير أصيل، وممارسة اللعب واللهو العابث ، لأنه يعتقد أن الفوضى والعبث واللانظام وغياب المعنى في هذا العالم لا يمكن تجاوزها أو نسيانها، فلهذا نجد أن الروائي ما بعد الحداثي يتبنى اللعب الفني والسخرية وأسلوب التهكم والسخرية السوداء، والتقطيع والتشتت بل التناقض والمعارضة الأدبية وتحطيم الزمن، وتمثلت هذه الأساليب في روايات حديثة ما بعد حداثية أبرزها رواية الغداء العاري للروائي وليم بوروز، ورواية أطفال منتصف الليل لسلمان رشدي. وأعمال جون بارث القصصية والروائية ، وسوف نلقي الضوء على بعضها مستقبلاً.
ماتت الفلسفة الوجودية وولدت ما بعد الحداثة
كانت الفلسفة الوجودية هي الفلسفة التي تسعى إلى كسر النسق، كما اتسمت بأنها نقدية ولا نهائية وتمثلت في القراءات الفلسفية التي أفرزت الطروحات النقدية الحديثة لما بعد البنيوية والتفكيكية.
ماتت فلسفة الوجودية كآخر السرديات الكبرى وتولدت عنها نظرية ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة والتفكيكية (دريدا ) والمتمثلة في ضدية امتلاك الفهم الثابت والحقيقة، وهي مبنية على مضمون فلسفة نيتشه التي تعتقد بتمكنها من تقويض كل الحقائق المطلقة والتي مهدت الأرضية للنظريات أو التيارات النسبية المتمثلة في مرحلة ما بعد الحداثة والتي انعكست بدورها على فنون متعددة أبرزها الرواية، وولدت نقاداً متعددين حسب هذه الفنون ما بعد الحداثية.
تطور إبداعات الرواية الغربية
بعد الحرب العالمية الثانية عاشت أوروبا في تيارات فنية وأدبية متعددة ، وبرز تيار التجديد الروائي الفرنسي كرد على ما خلفته الحرب وما أحدثته من دمار ، فظهر نموذج الرواية الجديدة لدى مجموعة من الكتاب الفرنسيين أبرزهم ( الان روب غرييه Alain Robbe - Grillet) 1922 - 2008 في أعماله ( في أعماله الروائية التجديدية « المماحي 1953 و» الرائي 1955 وناتالي ساروت Nathalie Sarraute) 1900 - 1999 في أعمالها « مارتيرو» 1953 و» بين الحياة والموت،» 1968 ، وكلود سيمون Claude Simon 1913 - 2005 في روايته « المخادع « و»طريق الفلاندر» وميشال بوتور Michel Butor 1926 - 2016 وروايته «التعديل» وغيرهم في الفترة مابين ( 1945 إلى 1964 ) .
ويتفق النقاد أن تمثل الإبداع الروائي في أسلوب التجريب في المضمون والشكل انعكس على الأساليب والتقنيات المابعد حداثية كردة فعل على أحدية الوعي الروائي الواقعي في روايات الحداثة، مثل أعمال مارسيل بروست وجيمس جويس خصوصا البحث عن الزمن الضائع وعوليس . ويرى النقاد ان تجديد الرواية مع هذه الكوكبة الجديدة قد أعاد الروائي الجديد إلى ذاته يحاورها ويفهمها من جديد ، ويعكس إحساساته في تناقضات الواقع ، وبدأ الروائي والفنان ما بعد الحداثي ينظر إلى زوايا أخرى في الحياة والإبداع ، وأصبح أسلوب الرواية يهدف إلى التوليد الذاتي أو القص الإضافي والتناص والتي يجمع فيها بين دوره ككاتب ودور القارئ والناقد ، وهذا ما سمي مصطلح « الرواية المضادة « أو ماوراء الرواية
( ما وراء السرد Metafiction ) وهو مصطلح تولدت عنه مصطلحات فنيه متعددة في الرواية، ومنحه الرواد فرصة في توليد وتطوير مسميات ما زالت تتوالد وتتفرع وتثري فنيات السرد القصصي والروائي، وتولد مدارس فنية ونقدية وتنعكس على فنون الشعر والمسرح والسينماء والموسيقى والفن التشكيلي ، وتتمثل هذه الخصائص في ( التخييل ، تداخل الأجناس الفنية ، والتحبيك، الحكاية داخل الحكاية، التشظي والتقطيع ، والتفتيت، تعويم المكان ، تداخل الأزمنة ، موت الزمن، شعرية السرد أو النص، السخرية والتهكم والمفارقة، انفتاح النص على الموروثات والثقافات ، الغرائبي والعجائبي، الأسطوري والسحري ، النسوي ، الكونيالي ، تيار الوعي والمنلوج الداخلي، الأحلام والهذيان والهلوسة ، الدادية والسريالية ،التاريخي والفلسفي ) .
أصبحت رواية ما بعد الحداثة خليطاً إبداعياً من الأجناس والأنواع والتقنيات والأساليب القديمة والحديثة ، في ربط ما بعد حداثي مبدع ومتنوع وثري وجذاب بل مثير للقارئ والناقد ، والكاتب الذين أصبحوا شركاء في القراءة وما بعد القراءة والنقد وإعادة الكتابة.
وفي مقال قادم سوف نتوسع في مجال تطور وازدهار رواية ما بعد الحداثة مع تطبيقات على نماذج منها.
... ... ... ...
هوامش:
- Aaron Hanlon, Postmodernism didn›t cause Trump. It explains him:
https://www.washingtonpost.com/outlook/postmodernism - didnt - cause - trump - it - explains - him/2018/08/30/0939f7c4 - 9b12 - 11e8 - 843b - 36e177f3081c_story.html
- https:/ /www.merriam - webster.com/dictionary/postmodern
- https://dictionary.cambridge.org/dictionary/english/postmodernism
- https://en.wikipedia.org/wiki/Postmodernism
- ايهاب حسن ، تحولات الخطاب النقدي لما بعد الحداثة ، ترجمة السيد الإمام، دار شهريار ، ط1 ن 2018، البصرة، العراق.
- ديفيد هارفي ، حالة ما بعد الحداثة، ترجمة محمد شيتا، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1 بيروت، لبنان، 2005.
** **
- ناصر محمد العديلي