يختلف بعض المعماريين مع بعضهم، فقائل إن الرموز التي خلفتها زها حديد (رحمها الله) في الدرعية وفي مترو الرياض وكذلك في مدينة الملك عبد الله للطاقة هي لمسات تعطي للرياض قيمة إضافية وتستحق العناء لزيارتها كمعالم سياحية. ورأي آخر يرى أن في ذلك تشوهاً بصرياً ولا يقدم نسقاً محلياً كما هو في حي السفارات. وفي اعتقادي أن هذا الاختلاف في الآراء بين المنتمين لمدارس معمارية مختلفة هو أمر صحي والاختلاف في حقيقته إقرار ضمني بوجود الآخر. وينطبق ذلك على الاختلافات الفكرية والتربوية من خلال المدارس المختلفة بين أتباع الأجيال المتلاحقة بمسمياتها المتنوعة، الحداثة، ما بعد الحداثة والمعاصرة أو التفكيكية وغير ذلك من المدارس المختلفة.
لكن في مجال التكنولوجيا لا نجد مثل هذا الاختلاف والتنوع. إنما كل جيل يتولى دفن سابقه ويضع على نصبه RIP ليستريح الأول في مثواه الأخير. فحين أعلنت ميكروسوفت عن موعد إيقاف أجهزة التنفس الصناعي عن ابنها الشرعي (إنترنت إكسبلورر) في أغسطس 2021 وتوقفها عن الدعم الفني له، كان ذلك من أجل حياة وصحة أفضل لوليدها الجديد (إيدج) فعتبات التكنولوجيا لا تسمح بالاختلاف ولا تسمح بوجود الآخر، فلكي يعش الجديد لابد من دفن القديم والترحم على جثمانه. وفي بعض الأحيان لا يكون الدفن والحكم بالموت لأحد المنتجات التكنولوجية لأجل مولود جديد، وذلك كما في الموسوعة العلمية الإلكترونية (ميكروسوفت إنكارتا)، حيث عللت ميكروسوفت إغلاق موقع الموسوعة والتوقف عن بيعها بما يلي «تغيرت فئة الموسوعات التقليدية والمواد المرجعية. حيث يبحث الناس اليوم عن المعلومات ويستهلكونها بطرق مختلفة إلى حد كبير عما كانت عليه في السنوات الماضية. وكجزء من هدف ميكروسوفت لتقديم الموارد الأكثر فعالية وجاذبية للمستهلك اليوم، فقد اتخذت قرارًا بالتوقف عن إنتاج إنكارتا». ولم يكن فقط هذان المنتجان لدى ميكروسوفت مما انتقل إلى مثواه الأخير، بل هناك العديد مثل ميكروسوفت ماث الخاص بالرياضيات وميكروسوفت فرونت بيج الخاص بإنشاء صفحات الإنترنت وغيرها كثير. وما يخص ميكروسوفت يشمل غيرها من الشركات. بل إن عتبات التكنولوجيا قد تحولت إلى عجلات لتدهس الكثير من الشركات التكنولوجية فتدوسها لتصبح أثراً بعد عين. فشركات مثل بولارويد للتصوير الفوري وبلوكبستر لتأجير أشرطة الفيديو وكذلك منتجات مثل البيجر والفاكس وغيرها توقفت عن الحياة وحل محلها تكنولوجيا أخرى.
الآن يمكنك قراءة الكثير مقولات سقراط وكونفوشيوس ورسيل وغيرهم، ولكن لا يمكن قراءة رقم هاتف وارد على بيجر لإن تلك التكنولوجيا وببساطة ليست على قيد الحياة. وقد تجد من أبناء هذا الجيل من يؤيد أفكار فيدا الهندوسية والتي يرجع تاريخها إلى ما قبل ستة عشر ألف سنة. ولكنه لا يؤيد استخدام التلغراف وشفرة مورس في التراسل بين الناس والتي لا يزيد عمرها على مئتي سنة. لذلك نرى تأصيلاً للثورات الصناعية من الثورة الأولى وانتهاء بالرابعة. فقد شهدت الثورة الصناعية الأولى استخدام الماء والبخار لتشغيل وميكنة الإنتاج. واستخدمت الثانية الطاقة الكهربائية لإنتاج كميات كبيرة. أما الثالثة فتم استخدام الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات لأتمته الإنتاج.
وعلى الرغم من المجموعة الواسعة من الفوائد، فإن الثورة الصناعية الرابعة IR4 لا تخلو من بعض التحديات الجوهرية. حيث يمكن أن يؤدي انتشار الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى خسائر كبيرة في الوظائف، مما يتطلب إعادة تأهيل العديد لمهن جديدة. هناك أيضاً مخاوف بشأن طرح التقنيات الجديدة بطريقة تقوض الكرامة في مكان العمل. حيث تعرضت أمازون، على سبيل المثال، لانتقادات شديدة لاستخدامها التكنولوجيا لتحديد أهداف صارمة لعمال المستودعات، مما يجعل بعض الموظفين خائفين للغاية من قضاء بعض الوقت في الحمام. وقد يؤدي الاستخدام المتزايد للخوارزميات في مكان العمل إلى انتقال المزيد من الموظفين إلى عقود محفوفة بالمخاطر، حيث تحدد أجهزة الكمبيوتر العدد الأمثل لساعات العمل في يوم ما أو أسبوع معين.
قد نرى هذا التطور وأحياناً التعاقب التكنولوجي بعين متشائمة فيقلقنا وقد نراه بعين التفاؤل فنرى فيه خيط أمل يدفعنا إلى الأمام. فلا يوجد بهده الدنيا شر محض فالشر يتخلله بعض الخير. والتعاقب التكنولوجي يتيح للمتأخر التقدم ولا يجعل السيطرة دائمة لدى جهات محددة.
هنا يتمكن من يخطط بواقعية وبنفس الوقت باستشراف للمستقبل. والسؤال المطروح ماهي التكنولوجيا الرابحة والمربحة بعد خمس أو عشر سنوات؟ من يجيب عن هذا السؤال ويضع توجهاته وخططه باتجاه هذا الأمر سيكون أحد الفاعلين في صناعة المستقبل.
الجهود التي تمت قبل سنوات أسفرت على تقدم وطني في مجموعة من المجالات، على الرغم من كثرة الكتابات المتشائمة عن التعليم فالأرقام تقول إن المنافسة في البحث العلمي والتعليم العالي في الشرق الأوسط تنحصر بين السعودية وإسرائيل. وبالجهة المقابلة فنسبة الأمية تقترب إلى الصفر. وهذا يقدم مورداً بشرياً مؤهلاً لصناعة المستقبل. كذلك أصبحت السعودية رقماً متميزاً في مجال الاتصالات وهذا سهَل من تقدم وتميز العديد من الأعمال الأخرى كخدمات النقل والتوصيل وكذلك تطبيقات الجوال المختلفة. التقدم بشكل كبير في مجال تقنية المعلومات له جوانب أخرى أكثر أهمية. فالاعتماد على الآخر يجعل معلوماتك بين يديه، ومن يملك المعلومة يمتلك قصب السبق. ومع التقدم الهائل من خلال العديد من المؤسسات البرمجية سواء كانت حكومية أو شبه حكومية أو خاصة. تؤهلنا إلى الاعتماد على أنفسنا في مجالات أخرى لا نتصور أن نستقل بها عن الآخر لتبقى معلوماتنا في مكان آمن.
بناء منصات تعليمية تساندنا في الاستقلال عن المنصات الخارجية والتي تستنزف ملايين الدولارات أحد المخططات المهمة التي نحتاج. وهذا الأمر من الناحية البرمجية والعتاد ممكن جدا مع المستويات التي حققناها في الفترة القريبة السابقة. ومثل ذلك برمجيات شؤون الطلاب والشؤون التعليمية الأخرى. هذا الأمر كذلك يجرنا إلى استخدام نظام تشغيل محلي الصنع خاصة في القطاعات الحساسة حيث ستجنبنا الكثير من الأموال التي تصرف على صد الهجمات التقنية أو على الأقل ستحمينا من المتطفلين. صانعو القرار يعرفون تماماً أهمية الاستقلالية البرامجية. وهم يسعون لذلك وبقوة، ولن نتفاجأ إذا رأينا بعد سنوات قليلة نظام تشغيل سعودي ومتصفح وباحث وسيرفرات سعودية سريعة تستضيف كل احتياجاتنا المعلوماتية سواء كانت تعليمية أو حكومية أو حتى ترفيهية.
الذكاء الصناعي كان خياراً استراتيجياً تنبه له صانعو القرار لدينا، فكان أحد الأهداف المرسومة بذكاء لتكون السعودية رقماً صعباً في هذا المجال. ويتبع هذا وذاك المدن الذكية والمصانع الذكية وإنترنت الأشياء. كل هذا سيتيح للصناعات المتقدمة أن تجد لها أرضاً خصبة. وحين كنا الأوائل في تقديم الطاقة التقليدية فالجهود المبذولة في تطوير وسائل مختلفة في تبني الطاقة المتجددة واستخداماتها ستجعلنا كذلك من الأوائل في هذا المجال. وإذا كانت السيارات السعودية لم تر النور حتى الآن فسوف تراه - بإذن الله - سيارات سعودية كهربائية لا تنافس فقط على السوق المحلية وإنما تسعى للمنافسة الدولية.
ونحن مع قيادات طموحة ومع طاقات مزودة بالعلم والإصرار سنحول الأحلام إلى واقع والخطط إلى حياة مثمرة ومزدهرة.
** **
أ. د. عبد العزيز سليمان العبودي - جامعة القصيم