عبد العزيز الصقعبي
كأنه صديق عزيز منذ زمن طويل لم التق به، كانت تلك الرسالة البريدية التي وجدتها على مكتبي صباح هذا اليوم، منذ زمن طويل لم تصلني رسالة شخصية عليها طابع بريدي، وكتب على وجه الرسالة إلى: ثم اسمي وعنواني، وفي الخلف اسم المرسل وعنوانه، و بخط صغير تحت الطابع البريدي كتب بين قوسين «شكراً لساعي البريد»، أرجأت فض المظروف وقررت أن أنهي عملي ولاسيما أن هنالك اجتماعاً بعد دقائق مع عدد من الموظفين، لست مسؤولاً ولا مديراً، أنا موظف بسيط لدي مكتبي الخاص في غرفة يشاركني فيها ثلاثة موظفين، أنا الوحيد الذي وُضِعت رسالة البريد على مكتبه بجانب مجموعة من المعاملات، أردت أن أسأل الزملاء عمن أحضر تلك الرسالة ووضعها على مكتبي ولكن أرجأت ذلك حتى الانتهاء من الاجتماع، قبل أن أغادر مكتبي تصفحت الحاسوب و استعرضت عناوين البريد الإلكتروني التي وصلتني، بعضها يخص العمل، وهنالك أكثر من رسالة إلكترونية خاصة، أيضاً أرجأتها حتى انتهي من الاجتماع، وقررت أن أغادر المكتب متوجهاً إلى غرفة الاجتماعات.
لم يكن معنا أوراق ولكن هنالك مجموعة من أجهزة الحاسب زودت بها غرفة الاجتماعات، يجب أن نستعرض نقاط الاجتماع وندون ملاحظاتنا لتتضح للجميع بوقت واحد، نحفظ تلك الملاحظات ونحولها لأجهزتنا الخاصة، سمعت رئيس الجلسة يفتتح الاجتماع، تفكيري متعلق بالرسالة البريدية الورقية التي على مكتبي، وعيني مركزة على الشاشة التي أمامي، وأذني تستمعان لكلام الرئيس، لا جديد يقوله، لأن كل الكلام الذي يقوله مدون أمامي على شاشة الحاسب، لم أرفع رأسي، لأتحدث مع الزملاء، ولم أوجه نظري للرئيس وهو يتحدث، بل حاولت أن أثبت وجودي من خلال عملي، فلحرصي على حضور الاجتماع كنت أول من دخل قاعة الاجتماعات، ثم عكفت على قراءة ما هو مدون على شاشة الحاسب، بالطبع طُلب مني أن اكتب اسم المستخدم والرقم السري، ثم رأيت تقريراً يوضح الوقت الذي حضرت به، و ملخص لما حدث بالاجتماع السابق، الآراء التي دونتها، وتعليقات الموظفين، و مدى المشاركة ونسبتها، والقرارات لتي ترتبت على ذلك الاجتماع، كنت منزعجاً قليلاً لأن نسبة مشاركتي في الاجتماع السابق دون المتوسط، وآرائي كان بعضها ارتجالياً ولم يكن مبنى على بحث أو استقصاء، على عكس بقية الموظفين، التي كانت آراؤهم دقيقة ومهمة، الغريب أن كل موظف يحمل رقماً، وأنا والرئيس كذلك، لذا كان من المفترض أن أعرف بقية الموظفين الذين يشاركونني الاجتماع بأرقامهم لا بأسمائهم، ربما لأن الأسماء قد تتشابه، أو تأخذ حيزاً من الذاكرة، والرقم محدد، فمثلاً لو كتبت عبد العزيز صالح ربما هنالك آخر بنفس الاسم لذا لا بد من إضافة اللقب والمهنة أو المنصب الوظيفي، والعلم الحديث بتقنياته يتجه للاختصار والتركيز، لذا مثلا رقم سبعة في هذا الاجتماع لن يتكرر لأن هنالك ثلاثة عشر رجلاً وامرأة من المفترض أنهم يحملون أرقاماً من واحد إلى ثلاثة عشر، وبالطبع كل رقم مستقل بذاته، وأمر آخر لا مجال لإضافة الأستاذ أو الأستاذة أو الدكتور أو المهندس، الرقم يكفي، وهنالك ربما تفاصيل موجودة في مكان ما، تعطي معلومات كاملة لرئيس الاجتماع كمثال الذي يحمل الرقم واحد.
ذهني لا يزال مشغولاً بالرسالة البريدية، و لدي الرغبة لمغادرة هذا الاجتماع، ولكن أعرف أن بمجرد مغادرتي قبل أن ينتهي الاجتماع سيصل لمدير إدارتي تقرير قد يتسبب بمعاقبتي إدارياً، أو البحث عن موظف آخر يحتل مكاني في المكتب ويحضر الاجتماعات، وأنا احتاج لأن أعمل لأكسب قوتي وقوت عائلتي، بالمناسبة قوت هذه أشعر أنها قديمة، أتخيل أنها إحدى جواري ألف ليلة وليلة وتسمى قوت القلوب، تغني وترقص وتحفظ الشعر ليحلو الجلوس معها، كل ذلك في الخيال أنا هنا في غرفة الاجتماعات وفي أيضاً مكتبي محاط بأجهزة حاسب آلي، وخلف كل جهاز «روبوت» يعمل معي، لا أعرف اسم كل جهاز منهم، ولكن كل وحد منهم له رقم، يعملون مثلي ولكن بإتقان، ربما الرئيس هو المستثنى، ولكنه أيضاً مثلي منكب على الجهاز الذي أمامه حريص على ألا يخطئ لأن بقية الموظفين عفواً « الروبوتات» يتم التواصل معهم وفق أوامر ونقاط محددة، فالصفر له قيمته لديهم مثل الواحد تماماً، يمسح الرئيس عرقاً من على جبينه على الرغم من أن الغرفة باردة حفظاً على الأجهزة، ولكن الجهد الذي قام به تسبب في ذلك، ينهي الاجتماع وينظر إلى وهو يبتسم، لأغادر مباشرة إلى مكتبي، لا تزال الرسالة على سطح مكتبي الحقيقي، لأن هنالك سطح مكتب افتراضياً في الحاسب الآلي، أسأل الموظفين عمّن وضع الرسالة على مكتبي، من أحضرها، هل لا يزال البريد الورقي موجوداً، لم يجبني أحد، لسبب معروف، أن الموظفين استعيض عن كل واحد منهم بروبوت، يعمل دون متطلبات كثيرة وينتج أكثر، أنا الوحيد في هذا المكتب أعتبر كائناً حياً، هل سأنقرض بعد زمن أو أغادر لأستبدل بروبوت، أمسكت بالرسالة وبهدوء فتحتها، وبدأت أقرأها، رسالة من صديق أرسلت لي منذ زمن طويل، نسيها أحدهم في مكتبه في وقت كنت فيه في رحلة عمل، ووجدها فجأة عندما قرر أن يغادر عمله للأبد، مسكين ساعي البريد الذي لم يعرف أن الرسالة بقيت في أجد الأدراج لمدة جاوزت ربع قرن، نسيت المكتب ولم أفكر باستعراض رسائلي الإلكترونية عبر الحاسب، كنت مستمتعاً بقراءة الرسالة، رفعت رأسي، وجدت أمامي مجموعة صحف، اختفى الحاسب، وجهت نظري للموظفين، رأيت زملاء العمل يؤدون عملهم وهم يتحدثون ويتناولون الشاي والقهوة، وأمام كل واحد منهم معاملات كثيرة تحتاج لزمن طويل لتنفيذها، أغلقت الرسالة، ووضعتها مع مجموعة أوراق لي، بمجرد أن أغلقت الرسالة تغير المشهد، ثمة أوراق قليلة على مكتبي ولكن يوجد حاسآلي، كنت وحيداً في غرفة جدرانها زجاجية صغيرة، أشارك في اجتماع عن بعد.