يضطر الشيخ للاستعانة بالعصا أثناء سيره؛ ولا سيما إذا ضعف بصره، وقد أشار الأعشى إلى أن العصا تكون دليله، فيفقد الجرأة، ويظل مترقباً أن يقع في وعثاء الطريق، مع أنه قد يكون في طريق معبد:
إذا كان هادي الفتي في البلا
د صدر القناة أطاع الأميرا
وخاف العثار إذا ما مشى
وخال السهولة وعثا وعورا
ويثير استخدام العصا عطف الأقربين وشفقتهم على صاحبها، أو سأمهم منه، كما يؤدي في الوقت نفسه إلى شماتة الأعداء، وقد عبر عروة بن الورد عن هذه الهواجس بقوله:
اليس ورائي آن أدب على العصا
فيشمت أعدائي ويسامني أهلي
رهينة قعر البيت كل عشية
يطيف بى الولدان أحدب كالرأل
وتأثرت ابنة ذي الأصبع العدواني حين رأت أباها يتوكأ على عصاه، فأدركت ضعفه وعجزه وكبره، فتألمت وبكت، فقال في ذلك:
جزعت أمامة إن مشيت على العصا
وتذكرت إذ نحن م الفتيان
لا تعجبِنَّ أمام من حدث عرا
فالدهر غيَّرنا مع الأزمان
ويصور حميد بن ثور العصا بعد ضعف بصره وقد صارت مركوبته، وأثَّر توكؤه عليها في ظهره، وإمساكه بها في أظفاره، فيقول:
لقد ركبت العصا حتى قد اوجعني
مما ركبت العصا ظهري وأظفاري
لا أبصر الشخص إلا أن أقاربه
معشوشيا بصري من بعد إبصاري
وقد أكثر أسامة بن منقذ من وصف حاله مع عصاه، مما دفعه إلى تأليف كتاب (العصا) الذي جمع فيه طائفةً من الأخبار والطرائف والأشعار المتعلقة بالعصا، له ولغيره مما استحسنه. وفي الأبيات التالية يقول إنه ثقيل الخطو كأنه يسير في وحل، مرتعش الكفين، فخطه مضطرب لعجز يده عن حمل القلم، بعدما كان يخبط بعصاه لبدة الأسد، وهذا لا شك مقلق لفارس كاتب مثله، فيقول:
مع الثمانين عاث الضعف في جلدي
وساءني ضعف رجلي واضطراب يدي
إذا كتبت فخطي جِدُّ مضطرب
كخطِّ مُرتَعِشِ الكفين مرتعدِ
وإن مشيت وفي كفي العصا ثقلتْ
رجلي كأني أخوض الوحل في الجلد
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما
من بعد حَطْم القنا في لبة الأسد
فقل لمن يتمني طول مدته
هذي عواقب طول العمر والمدد
ويقول أسامة بن منقذ في قصيدة أخرى إن ما أثقل عصاه ليس ثقل جسمه، ولكن ثقل ما خلفه الشباب عليه من أوزار:
حَمَّلْتُ ثِقْلِيَ بعدما شِبْتُ العصا
فتحَمَّلَتْهُ تَحَمُّلَ المُتَكَارِهِ
ما آدها ثِقْلِي ولكنْ ثقلُ مَا
أَبقى الشَّبابُ عليَّ منْ أَوزَارهِ
وروى أسامة عن العميد أبي الحسن علي بن أبي الآمال أنه أنشده بالموصل في سنة ست وعشرين وخمسمائة، ولم يُسمِّ القائل:
ما زلت أركب شاكلات الربرب
حتى مشيت على العصا كالأحدب
وتزلُّ رجلي كلما ثبتها
فكأنني أمشي الوحى في الطحلب
أأزيد ثالثة وأنقص عن مدى
مشي كالأحدب أتيت بمعجب
إنه ليعجب كيف أصبح مع رجل إضافية أعجز منه على اثنتين!.
ومما أورده في كتابه (العصا) قوله: دخل على بالموصل سنة ست وعشرين وخمسمائة رجل من أهل الموصل نصراني يعرف بابن تدرس، وهو شيخ كبير يمشي على عصا ليسلم علي، وأنشدني والعصا بيده قبل السلام:
أحمد الله إذ سلمت إلى أن
صرت أمشي وفي يدي عكازة
نعمة ليتني بقيت عليها
حذرا أن أشال فوق جنازة
ويقول أحد الشعراء إنه امتنع عن استخدام العصا حتى اضطر إليها، ويضيف ساخرًا أن الناس يظنونه يحملها، لكن الحقيقة أنها هي التي تحمله:
عصيت العصا أيام شرخ شبيبتي
فلما انقضى شرخ الشباب أطعتها
أحملها ثقلي ويحسب كل من
رآها بكفي أنني قد حملتها
ولأبي علي الجعفري (ت463) غرض آخر من حمل العصا، وهو استشعاره أنه على سفر، فيستعد للرحيل بصالح الأعمال، فيقول:
حملت العصا لا الضعف أوجب حملها
عليّ ولا أني نحلت من الكبرْ
ولكنني ألزمتُ نفسيَ حملَها
لأعلمَها أن المقيم على سفر
وفي المعنى نفسه يقول الشاعر الباخرزي:
حمل العصا للمبتلى
بالشيب عنوان البلا
وُصِفَ المسافرُ أنه
ألقى العصا كي ينزلا
فعلى القياس سبيل من
حمل العصا أن يرحلا
وترك أحمد الصافي النجفي حمل العصا مع أنه في حاجتها مكابرة، حتى لا يُظن أنه شيخ. يقول من قصيدة بعنوان (المكابرة):
شاب الرفاق وأركنوا لوقارهم
وبقيت طفلا من رفاقي ساخرا
ما في منهم غير شعر أبيض
تلقى وضعفا وانحناء كاسرا
وعدلت عن حمل العصا كيلا
أقيم لشيبتي بيدي دليلا ظاهرا
وقد تبارى الشعراء في وصف العصا وصاحبها خلفها، فجعلها شاعر أندلسي وترا لقوسه فقال:
تقوس بعد طول العمر ظهري
وداستني الليالي أي دوس
فأمشي والعصا تمشي أمامي
كأن قوامها وتر لقوسي
ووصف المشهد نفسه شاعر أندلسي آخر هو ابن لبَّال الشريشي، إذ يقول:
قوَّس ظهري المشيب والكبرُ
والدهر يا عمرو كله عبرُ
كأنني والعصا تدبُّ معي
قوس لها وهي في يدي وتر
** **
- سعد عبدالله الغريبي