يلزمنا الوعي بالأبعاد الدلاليّة للنزعة الاستعمارية في المشروع الكولونيالي ( الاستعماري)، والتي تجمع بين التمييز الطبقي والعبودية في قرن دلالي مشترك، وكذا بحث دور هذه النزعة في التوسّع والامتداد؛ حيث يجب الوعي بتحوّلات مفهوم الاستعمار، من بُعده المادي المتمثّل في الاحتلال، إلى بُعده الثقافي المتمثّل في علاقات الاستغلال بين طرفين، يفرض بموجبها الطرف الأقوى هيمنته على الآخر؛ وذلك لحصد المنافع الخاصة به، مقابل إيهام الآخر بحمايته، أو تنمية قدراته. وفي هذه العلاقة تتسلل لدى الطرف الأضعف معتقدات الشعور بالدونيّة؛ ومن ثمّ يصبح مؤهلاً لأن يكون تابعًا، وربما ساعد هذا على تهيئة الأسباب لمعاودة الظهور والتجدّد - في مرحلة ما بعد الكولونياليّة في صيغتها الثقافيّة والاقتصاديّة - على تخوم قِيم الحداثة الغربيّة، قريبًا منها، أو ضدّها، والتي عدّلت من سلبيّاتها في مرحلة ما بعد الحداثة؛ وذلك من أجل وعي حضاري بقضايا العصر في الأدب العربي الحديث.
يلزمنا الوعي بكل هذا من أجل فهم النزعة الإبداعيّة القائمة على إعادة التركيب في الإبداع العربي، وهي نزعة نهضت على التحوّل من القياس ، أي التبعيّة لنموذج مسبق، إلى المتغيّر، وربما كان هذا التحوّل سببًا من أسباب إعادة بناء نسق بديل لقيم الإبداع ونظام الخطاب.
ما يُبرّر لنا هذا الموقف النقدي أمران:
الأول: هو ارتباط نظرية ما بعد الاستعمار بنظرية ما بعد الحداثة، ومن المعروف الصلة الوثيقة التي تربط ما بعد الحداثة برواج الفكر البنيوي، الذي قام بدور مهم في الدعاية لفكرة المركزيّة الأوربيّة، أو الميثولوجيا البيضاء. فأصبح النموذج الأوربي قِبْلةً للعلم والإبداع، ومهدًا للنظريّات والمناهج الحديثة.
الثاني: أن نظرية ما بعد الكولونياليّة تنظر في المنتج الثقافي الغربي بوصفه خطابًا مراوغًا، يكشف في ظاهره عن أبعاد حضاريّة وإنسانيّة، ولكنه لا يخلو من توجّهات استعماريّة إزاء كل ما يقع خارج المركز، فتجعله هامشًا أو تابعًا للمركز. لم ينجُ الأدب العربي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من هذا المأزق!
يعتبر بيل أشكروفت وآخرون أن آداب « كل البلدان الإفريقيّة، واستراليا، وبنغلاديش، وكندا وبلدان منطقة الكاريبي، والهند، وماليزيا، ومالطا، ونيوزيلندا، وباكستان، وسنغافورة، وبلدان جزر جنوب المحيط الهادي، وسيرلانكا، تندرج تحت مفهوم آداب ما بعد الكولونياليّة نتيجة علاقتها بالمركز الميتروبوليتاني، ومع تطوّرها خلال القرنيين الماضيين، كانت نموذجًا لآداب ما بعد الكولونياليّة في كل مكان. وتشترك هذه الآداب جميعًا، بما يتجاوز طابعها الإقليمي الخاص والمميّز في أن شكلها الحالي انبثق من خبرة كولونياليّة، وأنها أكدت نفسها عن طريق إبراز التوتّر القائم مع القوى الإمبراطوريّة وتأكيد اختلافها مع فرضيّات المركز الإمبراطوري، وهو ما يجعلها متمايزة بوصفها ما بعد كولونياليّة» (راجع بيل أشكروفت ، وغاريث غريفيت، وهيلين تيفن، الردّ بالكتابة ص 16، 17).
وفي ضوء تلك المؤشّرات يمكن مناقشة العلاقة بين الهامش والمركز في الخطاب الإبداعي العربي من منظور النقد الحضاري؛ للكشف عن قدرة الخطاب على تفكيك إيديولوجيا المركز التي تحافظ على قوّتها، وتسعى لاستمرار هيمنتها من ناحية، ومهارة الوعي الإبداعي العربي في اختيار موضوعات خطابه؛ حيث تكشف هذه الاختيارات عن نظام من الإبداع يكافح من أجل التحرّر. ولعل هذا ما يُبرّر لنا دراسة الآثار الثقافيّة والحضاريّة التي خلّفها الاستعمار على الأدب العربي في مرحلة ما بعد الاستقلال. فآداب ما بعد الكولونياليّة، هي الآداب التي كتبتها الشعوب التي خاضت غمار التجربة الاستعمارية، وأرادت تأكيد هويتها واختلافها مع المركز في مرحلة ما بعد الاستقلال.
مما لا شكّ فيه أن مفهوم ما بعد الكولونياليّة اكتسب طابعه الاصطلاحي مع بداية التوسّع الأوربي خارج القارة الأوربيّة؛ حيث تنطلق إيديولوجيته عبر سؤال مركزي: كيف تسيطر على العالم بوسائل مختلفة مثل: المعرفة، والإيديولوجيا، والتكنولوجيا؟
فقد ظهر الاهتمام بفكر ما بعد الاستعمار في كتابات الكاتب الفرنسي فرانز فانون عندما انتقد أعمال الاستعمار الفرنسي في الجزائر في كتابه ( بشرة سوداء وأقنعة بيضاء صدر عام 1952م) والمعذبون في الأرض ( 1961م). تلفت دراسات (فانون) وأشعار السينغالي ( سينجور) الانتباه إلى الطبيعة الثقافيّة لمفهوم الزنوجة بوصفه مفهومًا مؤسِّسًا للتعبير عن قوى الكبرياء الثقافيّة؛ حيث « يقف كل ما هو إفريقي في مقابل ما هو أوربي؛ وحيث يكون الاحتفاء بالطريقة الإفريقيّة في الكلام والغناء والرقص والرسم والنحت، بل وحتى الضحك والبكاء، كما كان لهذا المفهوم تأثير كبير على الأفرو - أمريكيين، والأفرو - كاريبيين في بحثهم عن هويّة ثقافيّة». ( راجع موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي: القرن العشرين، المداخل التاريخيّة والفلسفيّة والنفسيّة، ص 339).
ولكن من الملاحظ على أطروحات ما بعد الكولونياليّة اعتمادها الدلالة السياسيّة للمفهوم، ونزعم أن هذا التوجّه أوقع الذّات الباحثة في مأزق انقسام الذّات على نفسها. فهي حائرة بين عالمين: عالم ساكن بداخلها بأنساقه وتقاليده. وعالم مليء بالإغراءات. فالجزء الأكبر من هذه الذّات يُعرِضُ عن استيعاب فكرة أنّه يناقش نصوصاً إبداعيّة في مرحلة الاستقلال، ويباهي باغترابه الثقافي، وكأنه مازال يعيش مرحلة الاستعمار، ويعوِّل في خلاصه على الآخر المجهول!. بينما يتكبّد الجزء الأصغر من الذّات آلام التهميش والدونيّة، وهو ما يسهم بدوره في تعقيد الرؤى النقديّة حول هذا الموضوع؛ حيث انصب جل اهتمامهم على تعرية الآخر لإظهار قبحه المستتر خلف قيمه، وخطابه المراوغ، دون الوعي بأن خطابهم النقدي، رغم كل ما تضمّنه من مظاهر السلب، يُعدّ شكلًا من أشكال إعادة إنتاج هيمنة المركز الغربي، وإثباتًا لحضوره وفعاليته في تشكيل الفكر الجديد، كما تضمّن - عن غير قصد - سوء توظيف لخطب الهامش، ما أدى إلى تكريس الهيمنة الغربيّة.
لعل ما يُضاعف القلق المعرفي في قراءة الخطاب النقدي لمرحلة ما بعد الكولونياليّة، هو اعتماده التأويل الإيديولوجي؛ حيث أسهم هذا التأويل في تحويل المنتج المعرفي عند الهامش إلى أصداء للمركز عن طريق ردّ الفعل. حسب زعم بيل أشكروفت كما أسهم أيضاً في ضياع تفاصيل هذا المنتج، وعدم السماح لهذا المنتج المعرفي بتكوين صورة دقيقة عن كيفيّة نشأة مفاهيمه وموضوعاته، ويَعدّ هذا - في منطق النقد الحضاري - نوعًا من التواطؤ على التاريخ؛ وذلك انطلاقًا من توجيه المعرفة عن هذا المنتج نحو الدلالة السياسيّة؛ ومن ثمّ ربطها بأحداث معينة دون اعتبار للتشكيلات الجديدة للخطاب، ودون اعتبار للمفاهيم، والموضوعات التي استوعبت النقلات والتحولات التي حدثت في سيرورتها، والتي ستظل غير قابلة للتأويل الصحيح في ظل هذا الوعي المؤدلج.
ولذا تُعدّ استراتيجيّة إلقاء اللوم على المركز بوصفه سببًا مباشرًا في محنة الهامش، عند نقاد ما بعد الكولونياليّة، حيلة معرفيّة من حِيَل الهامش في البحث عن مبرّرات إخفاقه - يجب الوضع في الاعتبار أن معظم روّاد هذا التيار الفكري، أقصد ما بعد الكولونياليّة، هم من دول العالم الثالث يربطهم مشترك ثقافي عن فكرة الآخر الغربي - وتكشف هذه الحِيلة عن حالة الاغتراب الثقافي، وهو اغتراب ينشأ نتيجة الصراع بين قوتين، تشعر إحداهما بالضعف (الذات) والأخرى بالقوة ( الآخر). فتلجأ الذّات إلى تدعيم نفسها بشتى السُّبُل في مواجهة هذا الآخر القوي. وعندما تشعر الذّات بعدم قدرتها على المواجهة، تتقمص دور الضحيّة؛ لأنها لا تملك سوى الخطاب، وهو خطاب لا يخلو من العنصريّة في مقابل عنصرية الآخر.
إن إعادة النظر في ما هو سائد ومألوف عن الآخر الغربي، ليس تخلّيًا عن الذات، أو شكًّا في قدراتها، وإنما هو بحث في حقيقة المفاهيم واختلافها في سياقاتها المختلفة. فالمكتسبات المعرفيّة، مثلاً، التي حدثت في مرحلة الصراع بين الذّات والآخر في مرحلة ما بعد الكولونياليّة، لا يمكن تجاوزها، وينبغي إعادة النظر في تاريخ اعتدادها بكمالها، وعدم الانسياق وراء الرؤى الإيديولوجيّة التي تَحُولُ دون النظر في إضافاتها الإبداعيّة. إن هذه الانزياحات الفكريّة هي التي تجعل توجهنا الحضاريّ إشكالاً معرفيًّا يفتح المفهوم على أبعاده الحضاريّة، بدلاً من تحطيم دلالاته الإيجابيّة على صخرة التوجهات الإيديولوجيّة، التي لا تميّز بين مرحلة التبعيّة ( الكولونياليّة) ومرحلة الاستقلال ( ما بعد الكولونياليّة).
** **
أ.د. عبد الفتاح يوسف - جامعة البحرين
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com