الحياة عسرها ويسرها له أثر على معاش الناس صفاءً وكدراً، وعلى ذات الشخص نفسه قبولاً ونكداً، فقد يجري على الشخص أمر من أقدار الله ما يثنيه عن مطمحه ومطلبه، ويحدد له مسير حياته ويرسمه، فيخط هذا القدر له طريقه على الرغم من أن ذلك المسير وذلك المختط بالأصل غير مرغوب فيه من صاحبه، وليس له فيه مطلب ولا مكسب ولا مكتسب، بل ربما لو خير به لتسخط عليه واستأباه ورفض قبوله وتلبسه= غير أن القضاء إذا حم فليس للإنسان إلا التسليم والخضوع، فالأقدار مكتوبة، والناس سائرة وفق أقدارها.
وكلامي سيكون على الجزيرة العربية وأبنائها، فابن الجزيرة العربية في عصر سبق عصرنا هذا الرغيد، وأعني به عصراً ليس بالبعيد تلم به الأمراض وتعصف به الأوبئة، فقد كانت هذه الجزيرة العربية تجتاحها الأمراض والأوبئة ولو كانت منعزلة عن غيرها، وهذه حال أجزاء من جزيرة العرب كمثل بلاد نجد، فقد كانت في منقطع ومنعزل عن بقية العالم، ومع ذلك تجتالها الأوبئة وتصيب ساكنيها، وديارهم صحراء نظيفة الأجواء، طقسها يتميز بالقسوة شديد الحرارة صيفاً قارس البرودة شتاءً، وأهلها كسبهم ومعيشهم من ديارهم من غير خلطة بالشعوب الأخرى، فحالها مختلف عن بلدان السواحل، والبلدان الداخلية تختلف عن البلدان البحرية قطعاً، وأما انتشار الأوبئة والأمراض في بلاد نجد خصوصاً والبلدان المنعزلة عموماً التي ليست بلداناً على طريق السابلة، غالباً ما يكون ذلك مما تنقله الرياح التي تقدم من أقاصي الأرض.
ومسبب آخر وكان هو الأكثر، وهو موسم الحج، فالحجيج فيهم الصحيح والسقيم، ومنهم العليل الذي يجلب علته معه، ويختلط بأهل الحرم وبالحجيج؛ فينتقل فيما بينهم، ثم يتلقفه الحاج النجدي القادم للحج، وينقله إلى دياره إذا عاد إلى مقر سكناه وأهل بلدته، وينتشر حينئذ في تلك الديار المنعزلة، والخلطة بين الحجيج هي سبب رئيس لانتقال الأمراض، فالحجاج يقدمون إلى الديار المقدسة والمشاعر من شتى أقطار الأرض، وهناك بلاد موبوءة تنتشر فيها الأوبئة بسبب بيئتها أو طقسها أو طعامها أو شرابها، أو غير ذلك من الأسباب فيقدم الحاج من تلك البلاد حاملاً معه المرض وناقلاً ذلك الفيروس، وفي الموسم وخلطته بالناس وأداء النسك ينتشر بين الحجيج، وهكذا.
ومن تلك الأمراض جرثومة الجدري أو فيروس الجدري الذي كان يعصف بالناس، فإما أن يزهق الأرواح، وإما أن يشوه الأجساد وتسلم منه الأرواح وقد يصيبها بالعمى، وينجو منه من ينجو سالماً= وكلها أقدار مكتوبة، وأقضية نافذة.
وهذا الداء كغيره من الأدواء قد يكون ثقيلاً على بعض الأجساد وعلى بعضها أخف، ولعل ذلك راجع إلى أن بعض الأجساد أحمل من بعض في احتمال الأمراض، والجسوم بلا شك بعضها أقوى من بعض في تلقي الأمراض.
وكان فضيلة الشيخ العلامة: د. محمد المفدى ممن ابتلي في صغره بهذا الداء فأفقده كريمتيه عوَّضه الله بهما في الجنة النعيم والحبور، وكان الشيخ ذا عزيمة فلم يثنه ذلك عن مرامه أو يستضعفه، أو يجعله في الرتبة الدون، بل فاق الشيخ بهمته أترابه من الأصحاء، وأبناء جيله من المبصرين ، فقد درس إلى أن بلغ الدراسة الجامعية وكان ذلك في حدود السبعينيات الهجرية، ولهمته الوثابة التي تغالب الذات رغب في الزيادة على ذلك فطمحت همته العالية في ذلك الزمن المتقدم الذي أبناء جيله من المبصرين لا يطمحون إليه كطموح شيخنا المفدى لكنها الهمة العالية، فمن طموح نفسه الوثَّابة أن رغب الدراسات العليا في دراسة (الماجستير والدكتوراه) فرحل الشيخ إلى مصر في جامعة الأزهر، وكان ذلك في الأعوام ما بين (1387هـ - 1396هـ)، وقد تحققت رغبته ونال طلبته، وعاد من مصر يحمل هذه الشهادات العالية المرموقة.
وكان بعمله هذا وطموحه السامق وهمته العالية نموذجاً ومثالاً يحتذى من أبناء جيله، ومن أتى من الأجيال بعد ذلك، وقد كان مما ينقل عنه- زاده الله فضلاً، وأمهل له في عمره- أنه يحسن أعمالاً لا يحسنها المبصرون في الكهرباء وتمديداته، والحاسوب وبرامجه وبرمجاته، وخلاف ذلك مما هو من مطاليب الحياة.
ولقد غالب الشيخ الحياة وعسير ظروفها وصعب أحوالها، وبلغ مناه بل ما يتمناه أهل عصره وأبناء جيله، وكان أستاذاً للنحو وعلامة له بلا منازع، وليس ذلك في جامعته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فحسب، بل في جامعات المملكة العربية السعودية جميعها، وبين أساتيذها طرًا، وله قدر ومكانة بين أهل تخصصه كلهم، كيف لا! وهو قد أمضى أكثر من ستين عاماً أستاذاً يدرس النحو والتصريف، وهو علامة نحوي هدك به من نحوي! إذ هو في النحو والصرف غير مغالب، لا ينطق إلا بالحجة ولا يختار إلا الوجه الأمثل من غير استرسال في تعداد الأقوال تكثراً ولا بذكرها تنفجاً، وكذلك من سمته عدم الإغراق والانغلاق بالصنعة والنشوز بها، وإهمال عوالق المعنى وعلائق الدلالة السياقية وإغفالها، بل مختاره هو المختار، وراجحه هو الراجح.
وإذا داخل عليه مداخل برأي معارض لما اختاره فضيلته، أو بما يداخل على مختاره فإنه لا يغنث رأي معارضه ولا يتسداه وإن كان من شنص الرأي، وصاحبه من صغار الطلبة، بل يتأمل القول هنيهة، ثم يبين حكمه على هذا الاعتراض قبولاً وتصحيحاً، أو تهبيطاً وتضعيفاً.
وكان اسم الشيخ وما زال ملء السمع والبصر، وها هو الآن وهو شارع في العقد العاشر من عمره، يسير في ركاب التسعين- أطال الله في عمره، وأمهل بمحياه البلاد والعباد- يحقق الكتب وينشرها، ويعقد ببيته العامر بحي النزهة بالرياض مجلساً دوريًا أحديًا مغيرباناً يستقبل فيه من يزوره من ذوي رحمه في النسب والعلم، ويستقبل أسئلتهم ومناقشاتهم= تعرض عليه فيبدي فيها رأيه ورؤيته ما مسألة فقضية، كما كان يصنع ذلك وقت شبابه وأشده زاده الله فضلاً وعلماً وبركة.
وقد كنت أنا ومجموعة من زملائي في العام الجامعي: (1427م - 1428هـ) آخر مجموعة من طلابه الذين شرفوا بالدراسة على يديه؛ لأنه اعتذر عن التعاقد مع القسم للتدريس بعد ذلك، فختم بنا مسيره التعليمي، وكنا طلاباً لمرحلة العالمية (الماجستير) في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في قسم النحو والصرف وفقه اللغة أحد أقسام كلية اللغة العربية بالجامعة؛ وكان الشيخ حينذاك في الثمانين من عمره.
وللإحاطة والإعلام للقارئ الفطن النبيه أنني لم أكن وقتئذ صغيراً، بل قد جاوزت الخامسة والثلاثين من العمر وكنت أكبر تلك المجموعة وكبيرهم، وأنا لست قريب عهد بالدراسة الجامعية كغيري من الزملاء في الشعبة فإن قرب العهد وسني العشرين، إذ تلك السن من معهودتها إعجاب التلميذ بأستاذه وأساتذته، والمغالاة في بسط مدحتهم وتزكيتهم، أما أنا فقد جاوزت ذلك إذ عملت ما يقرب من عشر سنوات معلماً في التعليم العام مذ تخرجي في كلية اللغة العربية، فحديثي عن الشيخ وحكمي عليه معتضد بمشاهدات ومجالسات علمية خالية من وهج العاطفة وسيطرتها وغرام المحبة.
وكانت دراستنا بين يديه موزعة على عدد من الكتب ذات الثقل النحوي أصولاً ودقةً وتحقيقاً كمثل كتاب الإمام سيبويه الكتاب، وشرح كتاب التسهيل لابن مالك، ومغني اللبيب لابن هشام، وأمثال شرح كافية ابن الحاجب لرضي الدين، وهن كتب أصيلة في التخصص، بل أصول.
وكنا نبحر معه في هذه الدواوين العلمية الأصيلة. يقرأ أحدنا والشيخ يعلّق ويملي تقييدات دقيقة ماتعة نافعة، هي خلاصة عمره العلمي الذي جاوز ستين عاماً، وصبابة فقهه في مسائل هذا العلم بهدوء ورزانة ونبرة هادئة وادعة تنبئ عن علم ثاقب ثابت وعقل راسخ راجح، فلا صخب ولا قعقعة، ولا غضب ولا زمجرة، وهو بهذا العلم جبل كما قلت من قبل هو ملء السمع والبصر في علم النحو والصرف خصوصاً، وعلوم العربية عموماً شعرها وأدبها وبلاغتها يدرك ذلك من لم يدرس على يديه بله من درس بين يديه، ومن نظر في تحقيقاته وتعليقاته وتعقيباته، ومن قرأ مؤلفات الشيخ أدرك ذلك إن لم يكن قد جلس إليه.
وكنت أشغب بالسؤال على فضيلته - ويبدو ذلك لأني أكبر القوم- عن الاحتمالات النحوية أو الإعرابية الواردة المحتملة، التي يمكن أن تورد في عارض المسألة المطروحة للدرس، وكان جوابه الجواب الهادئ والابتسامة الوادعة التي تخبر بحكمة السنين إذ لا يزيد عن تلاوة الآية: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (ص: 86) فحسب، وربما قال لي: لا تكن نحويًا، ويعضد ذلك بالآية، وهو لا يريد بذلك الإيراد على النحويين بالذم، بل يريد أن لا يشقق القول والإعراب بالاحتمالات العقلية، والتشقيقات التي يخرجها العقل الاحتمالي، ولكن يؤخذ بالأظهر في الإعراب مع مراعاة الصنعة والمعنى لا تطلب الإغراب، فالمسألة ليست مسألة لغيزى، فيطرق العقل فيها جالباً جميع الاحتمالات والوجوه= ذلك لأن عقل الشيخ ناضج رزين مستكمل الآلة سبر هذا العلم وخبره، ليس كعقل الشاب الطامح والمبتدئ لطلب هذا العلم، الذي يطربه طرق الاحتمالات والإجفال بها.
وطرق الاحتمالات من غير ما داع مما يخرج النحو عن مقصده، ويبعده من غايته؛ فيصبح النحو حينئذ رياضة عقلية بعيدة مقاصدها عن غايته، والنحو هو معرفة القواعد والضوابط التي من خلالها يستطيع الناطق والكاتب ترسم كلام العرب على سنن لسانها وحسب بيانها وفق أركان تلك اللغة، والنهج واللهج وفاق قوانينها النطقية والكتابية.
ومما يشهد للشيخ وقد لحظته بعيني ورأيته فيه أنه ذو ديانة وتقى، وعلى قدر عال من الأخلاق النبوية والشمائل الأبوية يرأف بالطالب، ويسعى به إلى أن يبلغ به الغاية، من ذلك أنه أيام الأثانين لما أن كان يدرسنا يأتينا صائماً ويقيم لنا الدرس، ولا نعلم بذلك إلا وقتما يرفع الأذان لصلاة المغرب إذا به يخرج من جيب جبته تمرات من تمر السكري المفتل يأكلها يفطر عليها بحدود خمس تمرات، ثم بعد ذلك يخرج أيضاً علبة ماء كوباً مغلقاً من المياه الصحية المعلبة، والدرس منعقد وربما الطالب ما فتئ شارعاً يقرأ نصوص سيبويه أو شروحات ابن مالك لتسهيله، والشيخ ينهي إفطاره ويعلق وينبه في مواطن الانغلاق، ونحن نستملي منه، ونأخذ عنه تقييداته، وهو بعد يستنطق الطلاب في موضع منابت الأسئلة في النصوص المقروءة، ويقفنا على مواقع الاستيقاف، وكيف يستنبط الطالب من النص التراثي السيبويهي خصوصاً الأسئلة، ويبين - حفظه الله- طريقة قراءة النص القديم، ولحظ اختلاف دلائل المصطلح بين النص القديم وبين النص النحوي المتأخر.
ولفضيلة الشيخ - حفظه الله ومتعه المتاع الحسن وآتاه من فضله- فضل على طلابه، وله أياد على من اقترب منه، وله بيضاء علي لا أنساها، فقد كان سبباً في انضمامي إلى أعضاء هيئة التدريس في جامعة الإمام - كلية اللغة العربية، في قسم النحو والصرف وفقه اللغة، وقد كنت قبلاً معلماً في وزارة التربية والتعليم، فانتقلت بسببه من التعليم العام إلى التعليم الجامعي، وذلك أنه أشار علي وقتما كنت طالباً بين يديه في مرحلة العالمية (الماجستير) بالتقديم على الإعادة في القسم، فاستعظمت ذلك وهبته ورأيت أن في ذلك كلفةً وجهداً، ولست كفئاً لذلك، فسهل علي ذلك ويسره؛ فاستنطقني بأن أذكر له ما يمنعني من التقدم بذلك، فذكرت له ذلك، فقال: الطلاب هم الطلاب هنا وهناك، والزملاء الأساتذة ستتعرف إليهم، وتزول الرهبة والغربة، وتنكشف الكربة، وكان كلامه بلسماً ميسراً، ومعزماً على ذلك الولوج في غمرات الجامعة وبين أساتذة الجامعة الأجلاء، وكان ذلك بحمد الله، فانتقلت إلى قسم النحو والصرف وفقه اللغة، وذلك بعد التقديم وعقد المقابلات الشخصية والعلمية، فنجز ذلك وتيسر ببركة رأيه ونصحه، والفضل لأهل الفضل، وكانت هذه أحد محامد زيارتي له في مكتبه بالكلية، فرأيه نعم الرأي! وقوله نعم القول! فجزاه الله خيراً وزاده نافلة.
ومما يتعلم منه ويستفاد من الدراسة عليه الجد والحزم، فكان الشيخ لا يغيب عن محاضراته ولا يتأخر عنها، ومما يفاد منه أيضاً أنه كان حازماً في الدرجات، فقد حدث لي معه موقف في ذلك أني رغبت إليه أن يعزز درجاتي في النحو بدرجتين يتلمسهما لي لأصل إلى رتبة تكون فارقة في التقويم بتلقيب المجموع ما بين (أ، أ+) لكنه لم يجبني إلى ذلك، واعتذر أنه لا يستطيع لأنهما درجتان فلو كانت واحدة لربما؛ فكان ذلك لي درساً.
ومما يختص به أن له منهجاً، بل مدرسة في التحقيق، وخصوصاً في توثيق الأبيات إذ يطلب أن تذكر مناسبة القصيدة وسابق البيت ولاحقه من أبيات، وذلك منه عن بصيرة، فالمعنى حاكم في درك الإعراب، وتحصل المعاني هو محصلة النحو، وكذلك تبلغها للسامع لا يكون إلا بمعرفة مناسبة القصيدة أحياناً، وسوابق البيت ولواحقه.
متع الله الشيخ العلامة: د. محمد بن عبد الرحمن المفدى بالصحة والعافية، وأمتعنا الله وذويه وطلاب العلم بمهجته ومحياه، وأطال في عمره ويسر له كل عسير، وبارك له في عمله وعمره، وجزاه الله خيراً لقاء ما قدم في سني عمره المديدة للعلم وأهله وللقرابة ورحمه، جزاء العلماء العاملين والأئمة المهديين، اللهم أسبل عليه من نعمائك وفضلك ما أسبلته على أهل الديانة والتقى، وذوي العلم والرشاد. والحمد لله رب العالمين.
** **
د. فهيد بن رباح بن فهيد الرباح - كلية اللغة العربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
fhrabah@gmail.com